أديب كمال الدين.. شاعر الحرف ومتصوف المعنى
محمد علي محيي الدين
في مدينة الحلة، حيث تنبض الذاكرة العراقية بعطر الحرف الأول ودهشة القصيدة، وُلد الشاعر والناقد والمترجم أديب كمال الدين عام 1953، ليحمل اسمه منذ بداياته وعدًا شعريًا وموهبة متوهّجة. نال شهادته الجامعية الأولى في الإدارة والاقتصاد من جامعة بغداد عام 1976، ثم ما لبث أن عاد إلى محراب اللغة فحصل على بكالوريوس في الأدب الإنكليزي من كلية اللغات في الجامعة ذاتها عام 1999، ومن بعده دبلوم الترجمة الفورية في أستراليا عام 2005، حيث استقر لاحقًا، مواصلًا فعل الإبداع بلغة الروح ومفردات المنافي.
عمل كمال الدين في الصحافة العراقية والعربية، وشارك في تأسيس مجلة أسفار، كما انتسب إلى عدد من النقابات والاتحادات الأدبية والثقافية. ترجم شعره إلى لغات شتّى: الإيطالية، الإنكليزية، الفارسية، الإسبانية، الفرنسية، الكردية، الأوردية وغيرها. نال جائزة الإبداع في العراق عام 1999، وكرّمه برلمان ولاية نيو ساوث ويلز في أستراليا عام 2016 عن منجزه الشعري والصحفي، فيما اختيرت قصائده مرتين ضمن أفضل القصائد الأسترالية المكتوبة بالإنكليزية.
أصدر خمسًا وعشرين مجموعة شعريّة بالعربية والإنكليزية، نذكر منها: تفاصيل (1976)، ديوان عربي (1981)، نون (1993)، أخبار المعنى (1996)، النقطة (1999)، حاء (2002)، ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة (2006)، الحرف والغراب (2013)، رقصة الحرف الأخيرة (2015)، وحياتي، حياتي! (2021). وقد صدرت أعماله الشعرية الكاملة في ستة مجلدات عن دار ضفاف – بيروت بين 2015 و2020. وامتدت تجربته الشعرية إلى لغات العالم، فترجمت بعض مجموعاته إلى الفارسية، والفرنسية، والإسبانية، والأوردية، واحتُفي بها أكاديميًا في العديد من الرسائل الجامعية والدراسات النقدية.
وأديب كمال الدين لم يكن شاعرًا تقليديًا، بل مؤسِّسَ مدرسة شعرية قائمة على فلسفة الحرف، فالحروف العربية في قصائده ليست مجرد أصوات أو أدوات بل كائنات حية، رمزية، متوهجة، تُجسِّد الصراع الوجودي، وتفتح نوافذ على أسرار الروح والمعنى. لقد استعار من الحرف العربي عمقه الروحي والثقافي، وحوّله إلى مرآة للذات، ومفتاح للأسئلة الكبرى: من نحن؟ وما جدوى الكلمة؟ وما مصير هذا العبور؟
في ديوانه الأول تفاصيل، تتبدّى البذور الأولى لهذه الرؤية، لكنها تتبلور لاحقًا في مجموعات مثل أبواب والحرف والغراب، حيث يصبح الحرف ذاته محمولًا بالقلق والأسى، ويتحول إلى رمزية كونية تشمل الموت والحياة، الفقد والحضور، السؤال واليقين.
ولم تكن هذه الحروفية منعزلة عن تراثه الروحي، فقد تأثر كمال الدين بتراث التصوف الإسلامي، وبأسماء مثل الحلاج وابن عربي، فامتزج في قصائده التأمل الصوفي بالبحث الفلسفي، حتى بدت أشعاره كأنها حوار بين الروح والنص، بين الماورائي واليومي، بين العزلة والحلم.
أما الغربة، فقد حفرت في وجدانه مساحات واسعة من الحنين والقلق، فبعد مغادرته العراق واستقراره في أستراليا، صار المنفى سطرًا ثابتًا في دواوينه، وغدت الهوية سؤالًا وجوديًا لا يفتأ يطل برأسه من خلف كل حرف وكل استعارة. كتب عن الانتماء الممزق، وعن الوطن المزدوج، وعن الغياب الذي لا يُعوَّض إلا بالقصيدة.
تتميز لغته الشعرية بالاختزال والتكثيف، إذ لا يركن إلى البلاغة الجاهزة، بل يغوص في اللغة باحثًا عن أشكال جديدة للتعبير، فيغامر بتركيب الصورة وتوليد المجاز، تاركًا نصوصه مشرعة على التأويلات. ولهذا فإن شعره لا يُقرأ بل يُستكشَف، كأنه ألغاز معرفية وروحية تنتظر من يفتح مغاليقها.
لقد أرسى أديب كمال الدين مشروعًا شعريًا فريدًا، زاوج فيه بين الحرف والهوية، بين الغربة والمعنى، بين اللغة والروح، فغدا شاعرًا يُعيد تشكيل اللغة لا بوصفها وسيلة بل غاية، ولا بوصفها نظامًا بل كونًا.
وما تجربته إلا مرآة لرحلة إنسانية وجمالية نادرة، تحتفي بالحرف وتغامر بالمعنى. إنها تجربة تستحق أن تُدرَس بعمق، لا لأنها فقط أغنت الشعر العربي الحديث، بل لأنها أيضًا طرحت أسئلته الكبرى، وسعت إلى بناء جسر بين الذات والعالم، بين الشرق والمنفى، بين الشعر والحياة.