أن تعيد قراءة كتاب ما أثار إعجابك في لحظة من الزمن يعني أنك نسيته، ولم تعد تتذكر ما فيه. قد يسوؤك هذا، وتظن في نفسك الظنون، لكن الحقيقة أنه هو السر في احتفاظك بمكتبتك المنزلية، وورقك وأقلامك، ولو كنت راوية مكثراً مثل خلف الأحمر أو حماد عجرد، أو ذا ذاكرة متوقدة مثل الأصمعي أو الجاحظ، لما احتجت إلى أي كتاب بعد قراءة ما فيه، ولألقيت به في صندوق النفايات، أو رميت به في بيداء أو تكرمت به على (معزة)، وهكذا!
وكان على أسلافك في نينوى وآشور وبابل بعد أن اغترفوا من معين الرقم الطينية، وشبعوا مما حوته من علم ومعرفة وأخبار وسنن، أن يكسروا هذه الأحجار، أو يعيدوها إلى الأرض التي خرجت منها، فقد انتقل كل ما فيها إلى أدمغتهم، ولم يعد ثمة داع لخزنها في المنازل والقصور، مع ما فيها من خطر السقوط على الساكنين الصغار والكبار على حد سواء، ومع ما تأخذه من مكان في القصور الملكية، أو دواوين الحكومة، أو حتى في المدارس القليلة التي كانت غير شائعة آنذاك!
بل ولما عمد حمورابي إلى وضع مجموعة قوانينه في مسلة سوداء صلدة، واحتفظ بها وارثوه حتى نقلها الغزاة إلى مدينة الشوش الإيرانية، بغرض الاطلاع عليها، مادام الناس قادرين على حفظ ما فيها من قوانين تقصم الظهر، وتوجع القلب، وتنذر بأقصى العقوبات، وماداموا لا يجدون صعوبة في استعادتها حرفاً بحرف وكلمة بكلمة، ولما تجشم (دي موركان) وفريقه من الآثاريين الفرنسيين مشقة نقلها إلى باريس، لتخزن في متحف اللوفر، ويجهد العراقيون أنفسهم لاستردادها دون جدوى.
إن شمس الحضارة التي أشرقت على العالم في أزمان مختلفة إنما صنعتها آفة النسيان هذه، وأبقت على وجودها في هذه الأرض، رغم كر العصور، وتوالي القرون، ولولا هذه الآفة التي يلعنها الناس صباح مساء لما عرفنا عنها شيئاً، بل لأعدنا الكرة من جديد، وبقينا نراوح في مكاننا دون توقف، فقد عمد الشيوخ الذين يعانون من تشتت الذهن، وضعف الذاكرة، إلى تدوينه في الكتب والدفاتر وعلى جلود الحيوانات المسكينة، فحفظوه من الضياع وأوصلوه بأمانة، لنقوم من جانبنا بالاطلاع عليه، فنعجب به حيناً ونضيف إليه حيناً آخر، وهكذا دواليك.
ولولا آفة النسيان هذه لما وصلتنا كتب أفلاطون وأرسطو وجالينوس وهرقليطس وديوجانس الكلبي، ولما انتقلت من لغة إلى لغة، ومن حضن إلى حضن، ومن مكتبة لأخرى. ، حتى تلقفها الفارابي والكندي وابن سينا وابن رشد، وسواهم من فلاسفة المسلمين وأوسعوها شرحاً وتبويباً لتصلنا بعد ذلك في مخطوطات مهترئة متهالكة، فكان يكفي هؤلاء أن يقرأوها مرة واحدة، ثم يقوموا بشرحها في إحدى حلقات الدرس، وينتهي الموضوع.
فإذا لم يشفع لك ما أنفقته من نصب وجهد، وما حفظته من أدب وشعر، وما شغفت به من معرفة وعلم، في موسم الامتحان، فلا تأس ولا تحزن، لأن النسيان الذي أصابك في وقت حرج، وأناخ عليك في موقف صعب، هو الذي أوصل هذه المناهج إليك، وجعلك تنتظم في مدرسة أو معهد أو جامعة، وهو الذي وضع هذه العلوم أمامك دونما عائق، ويسرها لك دونما معضلة، وجعلك تنهل منها ما شاء الله لك ولأبنائك من بعدك إلى يوم الدين.
ولولاها لبقيت تغرق في ظلامات الجهل، غير قادر على فك الخط، أو اللعب بالألفاظ، تضرب أخماساً بأسداس، وتقرع كفاً بكف حزناً وكمداً على ما حرمت من نعمة، وما فاتك من درس، ولابتهلت إلى الله أن يحرمك من أعز ما يملكه الإنسان، وهو الذاكرة المتوقدة القوية.