الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
عيون تتذكّر:تأملات في عودة وجه سومري إلى العراق

بواسطة azzaman

عيون تتذكّر:تأملات في عودة وجه سومري إلى العراق

أمل الجبوري

 

عاد هذا الشهر وجهٌ إلى وطنه.

فبعد سنواتٍ من النفي، إثر تعرضه للنهب في خضم الفوضى التي أعقبت الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، عاد هذا الرأس النحتي السومري القديم من نيويورك إلى موضعه الطبيعي في العراق. غير أنه لم يعد وحده، بل عاد محمّلاً بما هو أعمق من الطين والتشققات: عاد بنظرةٍ، بقصةٍ، بحضورٍ يوقظ ذاكرة حضارةٍ بكاملها.

الوجه المنحوت ذو ملامح ذكورية واضحة، كما تدل عليه الدراسات والأوصاف المرتبطة به. غير أن ما استوقفني أكثر، بل ما رسّخ تأملاتي كما يرسو الحجر في عمق دجلة، هو ما يُعرف باللهجة العراقية بـالعرقچين”. الكلمة بحد ذاتها تنبض بدلالات تاريخية عابرة للغات، فحرفچ” غير موجود في الأبجدية العربية الكلاسيكية، مما يرجّح أن يكون أصل الكلمة فارسياً. غير أن هذه التسمية لاحقة لزمن هذه القطعة؛ فالغطاء أو النقش الذي يشبه تسريحة الشعر محفورٌ في الرأس قبل أن توجد اللغة الفارسية ذاتها.

إنه سابقٌ للسلالات، متجاوزٌ للحدود.

هذا الرجل السومري ارتدىالعرقچين” قبل أن نطلق عليه هذا الاسم.

لكن، هل هو غطاء رأس فعلاً؟ أم أنه شعرٌ مصفّف بعناية، مشطوف بتناظر مقصود؟

إن الخط الوسطي المنحوت في الرأس يشدّ الانتباه، وكأنه أكثر من مجرد تصميم جمالي.

ربما يمثل نهرًا فاصلًا بين الشرق والغرب—دجلة أو الفرات—أو ربما هو حدٌّ رمزي بين سومر وجاراتها من الحضارات التي خالطتها، أو خاضت معها صراعات، أو بسطت عليها نفوذها.

هذا التصميم المتقن، بهذا التوازن، يذكّرني بغرابة، بشعر القضاة الإنجليز، وتقاليد المحاكم التي ما زالت تحتفظ بأثر للسلطة وهيبتها في الملبس.

هل كان هذا الرجل قاضيًا، أو حكيمًا، أو ملكًا؟

هل كان من أولئك الذين أوكل إليهم الفصل بين الناس، ووزن الكلمات، وترجيح العدل في زمنٍ كانت العدالة فيه مرهونة بالبصيرة والهيبة؟

رغم ما أصاب ملامحه من تشويه أو تآكل بمرور الزمن، إلا أنها لا تزال ناطقة.

العيون، على وجه الخصوص، منحوتةٌ بمهارة استثنائية، تظهر وكأنها مغمضة، لكنها في الواقع مفتوحة على عوالم أخرى.

هذا ليس صدفةً نحتية؛ بل هو وعي فني.

لقد سمح لنا النحّات أن نبصر القصة من خلال الجفن المغلق،

أن نرى ما لا يُرى،

أن نلتحق بسردٍ عميق يتجاوز الشكل.

إنها عيون رجلٍ رأى الكثير.

لا ترمش. لا تنام. بل تشهد.

وماذا عن الأنف؟ هذا الجزء المشوه، المحفور، المكسور؟

من الصعب أن لا يستدعي إلى الذهن وجهًا آخر من الزمن ذاته تقريبًا:

وجه إنخيدوانا، ابنة سرجون الأكدي، الكاهنة العظمى، والشاعرة، وأول كاتبة تُعرف باسمها في التاريخ.

هي الأخرى حمل وجهها آثار الطمس؛ أنفها مكسور، كما هو حال هذا الوجه السومري.

هل هي مجرد مصادفة؟

أم أن هذه الإصابات تحمل دلالات؟

هل كان الاثنان من أسرة واحدة؟ أم أن أعداءهم أرادوا أن يتركوا آثارًا لانتقامهم؟

هل كان التشويه فعلًا انتقاميًا أم محاولة لطمس الذاكرة والهيبة؟

لا نعلم.

وقد لا نعلم أبدًا.

لكن ما أعلمه، وما أرجوه:

أن يتأمل العراقيون، حين يتجولون في متاحف بغداد، أو حين يشاهدون تراثهم معروضًا في الخارج، هذه الوجوه القديمة لا من باب الاستعراض، بل من باب الإنصات.

هذه الوجوه، المنحوتة منذ آلاف السنين، لا تزال تتحدث.

لا يخبو أثرها مع الزمن، بل يزداد عمقًا.

إنها تدعونا لنسأل:

من كنا؟

بل الأهم:

ما الذي تبقّى منهم فينا؟

فلعلّ هذا الوجه، رغم تصدّعه، يكون مرآة.

مرآة لا تعكس ملامح سومر فقط،

بل ملامحنا نحن،

الذين لا نزال نحمل ذاكرتها في عظامنا.

 

 


مشاهدات 186
الكاتب أمل الجبوري
أضيف 2025/05/26 - 3:42 PM
آخر تحديث 2025/06/02 - 1:05 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 88 الشهر 2817 الكلي 11137471
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/6/3 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير