في حضرة الشعر والوفاء: عارف الساعدي كما رآه أحمد خلف
حيدر أحمد خلف
ليست الشهادات الورقية ما تخلد الإنسان، بل أثره في النفوس، وصوته في الكلمة الصادقة. هكذا يكون الأدب الحقيقي: شاهداً أبلغ من أي وثيقة.
والمثقف الملتزم بكلمته، الثابت على موقفه، المتسلح بثقافته الرصينة، هو الشاهد الأصدق على ذاته، كما هو نخيل البصرة شاهدٌ على صلابته وكرامته.
أتحدث هنا عن الشاعر العارف الدكتور عارف الساعدي، ذلك الاسم الذي يتسع لحكايات من الشعر، والإبداع، والصدق الجمالي
ما يدفعني للكتابة عنه اليوم هو وصية ثمينة حمّلني إياها والدي، القاص والروائي الراحل جسداً لا روحاً أحمد خلف، الذي عهد إليّ أن أُخرج هذه الكلمات إلى النور، لما تحمله من (شكر ومحبة) للشاعر الساعدي، اعترافاً وامتناناً منه لما قدمه من جهدٍ في طبع الأعمال القصصية الكاملة، التي وصفها والدي بأنها "تحفة أدبية"، خرجت إلى القارئ بأبهى صورة.
عندما صدرت هذه الأعمال عن دار الشؤون الثقافية العامة، بدت الفرحة على محيا والدي كأنها فرحة الأب بمولوده الأول، ولولا وجود شخصية ثقافية حصيفة ومخلصة مثل الساعدي، تنتمي بجذورها إلى الجمال، وتهفو روحه إلى خدمة الأدب، لما خرج هذا الإنجاز بهذا الجلال والبهاء.
إن الشاعر عارف الساعدي، هو الامتداد الطبيعي للمتنبي، وأبي نواس، والبحتري، والجواهري، والسياب.
إنه لا ينتمي إلى مدرسة شعرية واحدة، بل إلى روح الشعر ذاتها. استمع بعذوبة إلى وجدان النص قبل أن يكتب، وكان دائماً ما يدعو إلى تحديث النص العمودي، ثم ما لبث أن طرق أبواب قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، لما وجد فيهما من فسحة أرحب وأقل قيوداً، دون أن يتخلى عن القصيدة العمودية، مؤمناً. بأن جميع الأشكال الشعرية متجاورة، متكاملة في تجربته.
ديوانه "قصائد العائلة" شاهد حي على هذا التنوع، فهو يضم في معظمه قصائد نثرية، وفيه من التفعيلة والعمود ما يؤكد أن الشاعر لا ينحاز لشكل على حساب الجوهر، بل هو مؤمن بأن الشعر محتوى وروح، قبل أن يكون بناءً وهيئة.
الشاعر الساعدي يرى أن الشعر بحاجة إلى ثورة داخلية، تجدد جلده، وتعيد تعريفه خارج الأطر التقليدية، وهذا ما نجح فيه حين شقّ لنفسه خطاً واضحاً ومميزاً تميز بعمق المضمون، وصدق التعبير، والاقتراب من القارئ بلغة سلسة، عميقة، متماسكة في بنيتها ومتفردة في إيقاعها.
لقد ترك بصمته اللامعة في المشهد الشعري العراقي والعربي، من خلال مضامين إنسانية واجتماعية تعبر عن واقع وهموم الناس، بلغة تجمع بين الأصالة والمعاصرة.
إنه نموذج حقيقي للمثقف الجنوبي الأصيل، المتجدد في فكره، الوفي لثقافته، الحامل لهموم وطنه، والناطق بصوت مجتمعه.