المكالمة الأخيرة قبل الليلة الموحشة
طه جزّاع
لعلني كنتُ آخر من تحدث مع رزاق إبراهيم حسن، وآخر من شاهده من زملائه وأصدقائه وهو ممدد على سريره بمستشفى سلطان غازي في إسطنبول، وما كان ذلك ليحدث لولا ولده وسام الذي رافق والده في رحلته الأخيرة، وفي ساعاته المعدودة المتبقية من الحياة، فقد كنتُ متواصلاً معه واتابع صحة والده التي تدهورت في الغربة، وفي أيام مرعبة كان يعيشها العالم أجمع تحت وطأة كابوس كورونا.
كلمتُه من بغداد عبر الواتساب وهو في المستشفى قبل وفاة والده بيومين أو ثلاثة، فإذا به يفاجئني بالقول : هذا والدي معك !.
تماسكتُ وأنا أتحدث مع رزاق بعد أن فتح ولده كاميرا الفديو لأجد نفسي وجهاً لوجه مع والده، حاولت أن الطف الجو وهو يتكلم بصوتٍ واهنٍ من خلف كمامة الأوكسجين البلاستيكية الشفافة التي كانت تغطي وجهه لكنها تتيح لي رؤية عينيه وابتسامته، تبادلتُ معه كلمات قصيرة لأشدَّ من أزره، لاطفته بكلمات تهون من المرض، وقلت له لا تطيل مكوثك في المستشفى، الجميع ينتظرون عودتك سالماً معافى يا أبا وسام . ابتسم وهو يلوح لي مودعاً ومتمتماً بكلمات لم أكن اسمعها جيداً، غير أن عينيه كانتا تنطقان بالألم والأسى والشكوى من قسوة المرض الذي شاء أن يقتنصه وهو بعيد عن حبيبته بغداد، المدينة التي فتحت له أبوابها حين وصلها شاباً يافعاً بهيئة عمالية كادحة بسيطة، وشرعت أمامه أبواب الصحافة والكتابة والنقد والأدب فكان مخلصاً مع نفسه ومع مهنته، من دون أن ينسى يوماً انه عامل بصفة كاتب، وكادح بثياب أديب، ومكافح برتبة إنسان. لذلك كان يومه الذي يشعر فيه بالسعادة الحقيقية مع نفسه هو احتفاله مع العمال بعيدهم في الأول من أيار في كل عام، وقد كان رحيله في آخر ليلة من شهر أيار مصادفة غريبة من مصادفات الموت والحياة .
صار الخبر الصادم واقعاً بعد يومين أو ثلاثة، وها هو وسام يؤكد لي من خلال رسائله على الماسنجر وفاة والده فجر الأحد الحادي والثلاثين من مايس / ايار 2020 ? فسارعت إلى اعلان الخبر على صفحتي في الفيسبوك مع رسالة إلى كل الجهات التي يمكن أن تقدم لأسرته المساعدة على نقل جثمانه إلى العراق تنفيذاً لوصيته الأخيرة بأن يدفن في وطنه، وقد أخبرني وسام وقتها أن السلطات الصحية التركية قد أجرت اللازم لتعفير الجثة والتأكد من القواعد الصحية اللازمة لنقلها ودفنها في مثواها الأخير. فيما كان الزميل الدكتور احمد عبد المجيد رئيس تحرير جريدة الزمان طبعة العراق، يتواصل مع الأستاذ سعد البزاز الذي أوصل مساعدته السريعة والمباشرة إلى إسطنبول مع تكفله بتحمل نفقات نقل الجثمان، وقد خاطب الدكتور عبد المجيد برسالة قال فيها : " إلى رحمة الله الواسعة أخونا الكبير الكاتب المرموق رزاق إبراهيم حسن، بعد نصف قرن من العطاء في خدمة العراق والدفاع عن الحريات وقضايا المهمشين". كانت الظروف التي فرضتها جائحة كورونا صعبة للغاية، إذ أن خلية الأزمة في العراق قد اتخذت قراراُ بغلق المنافذ الحدودية الجوية والبرية لمدة أسبوع، ولذلك أصبح من العسير جداً دخول أية واسطة نقل جوية أو برية إلى البلاد، غير أن رئيس الجمهورية السابق برهم صالح أوعز بالاتصال بشركة الخطوط الجوية العراقية لتأمين طائرة خاصة لنقل الجثمان، واعلن الدكتور علي شكري المستشار في رئاسة الجمهورية حينذاك " أن الرئاسة فور ابلاغها نبأ وفاة الكاتب أجرت اتصالات لهذا الغرض، وتتابع الأمر مع رئاسة الوزراء لتأمين عملية نقل الجثمان في ظل ظروف الحظر الجوي نتيجة وباء كورونا "،فيما كان مكتب رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي يتابع الأمر، بل أن الكاظمي نفسه كان يتابع شخصياً مع وزيري الصحة والنقل، ويبلغ اهتمامه ومتابعته وتعازيه إلى عائلة الفقيد عبر مسؤول مقرب منه.
أقلعت الطائرة التي تحمل الجثمان من مطار إسطنبول في الساعة السادسة من مساء يوم الخميس الرابع من حزيران 2020 بعد قلق وانتظار وارهاق لأسرته بسبب إصرار السلطات الجوية والصحية على اجراء اللازم لتعفير الطائرة، والتأكد من اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة قبل هبوط الطائرة في مطار بغداد .أما نحن أصدقائه في بغداد فقد تنادينا في تلك الليلة الموحشة لاستقبال الجثمان مع المستقبلين من اسرته واقاربه، وهكذا تجمعنا، أحمد عبد المجيد وكاظم المقدادي وحمزة مصطفى وطه جزّاع وانطلقنا صوب المطار في ساعة متأخرة من الليل لنشهد وصول جثمان الرجل وهو في طريقه لتحقيق وصيته الأخيرة، تنفيذاً لرغبته في العودة إلى وطنه ولو كان محمولاً على الأكتاف. وعندما انزل الجثمان من الطائرة ووضع في حوض سيارة لنقله إلى مثواه الأخير في مقبرة النجف الأشرف، كنا نلاحظ النعش وقد تم تغليفه بعناية فائقة من قبل الجهات الصحية التركية، ففي تلك المخاوف المبالغ بها أيام انتشار الجائحة، كان من الصعوبة نقل جثمان من محافظة إلى أخرى، فكيف ان كان من دولة إلى أخرى، غير أن الجهود التي تظافرت من أجل ذلك، أتاحت لرزاق إبراهيم حسن تحقيق حلمه الأخير من بين أحلام كثيرة في دنياه لم تر النور أبداً.
في لحظات الوقوف أمام النعش وقراءة سورة الفاتحة والترحم على الراحل، مر أمامي شريط من الذكريات اعادني إلى نهاية السبعينيات يوم كان رزاق إبراهيم حسن مسؤولاً عن الصفحات الثقافية في مجلة "وعي العمال"، وقد زرته يوماً لأسلمه قصة قصيرة كنت قد كتبتها في محاولاتي الأدبية المبكرة، ومضيت في سبيلي يائساً من انها قد تجد طريقها للنشر في صفحة يشرف عليها شاعر وكاتب، وناقد صارم مثله، لكني فوجئت بعد مدة قصيرة بنشر القصة على صفحتين متقابلتين في المجلة مع اهتمام ملحوظ بتصميمها، مما أسعدني وحفزني وشجعني على أن استمر في تلك المحاولات. إلّا أن مما بقي مثيراً للدهشة في الذاكرة، أنه كان ينشر مقالاته في جريدة " الزمان" قبل 2003 يوم كان مجرد الاطلاع على نسخة من الجريدة تم تهريبها سراً إلى بغداد يعد مغامرة غير محسوبة العواقب.
ولقد كان من تواضعه أيضاً أن يجري معي لقاءً لحساب الجريدة نفسها بعد 2003 تحت عنوان " المثقفون العراقيون يناقشون العلاقة بين الثقافة والحرب"، وذلك ما علمني درساً جميلاً، بأن الصحفي الحريص على مهنته، يبقى مهما علا شأنه، وذاعت شهرته، أميناً على عمله وقلمه، متواضعاً أمام زملائه، وإن كان أكثرهم خبرة، وأقدمهم مهنة، وأكبرهم عمراً ومقاماً.في تلك الليلة الموحشة التي كان فيها العالم بأجمعه مرعوباً مذعوراً مجنوناً، بسبب جائحة كورونا، بدا رزاق إبراهيم حسن وكأنه يودعنا بهدوء وطمأنينة من خلف حجاب، وكان يحث خطى جنازته باتجاه محطته الأخيرة، حيث السكينة والراحة الأبدية.