عامل الطين.. الشاعر والناقد والموسوعي
عبد المطلب محمود
باختصار شديد سأكتب عن صديقي العتيد رزاق إبراهيم حسن، الإنسان البسيط مظهراً العميق الثقافة، شاعراً وناقداً وكاتباً مؤرخاً وموسوعياً، ولاسيما في ميداني النقد وتوثيق القصة والرواية العمّالية في العراق والوطن العربي، وتأريخ الحركة العمّالية العراقية والعربية كذلك، عبر مؤلفات عدة، والشاعر الذي رسّخ اسمه بين مجموعة من شعراء النجف الأشرف الشبّان وأدبائها، منذ النصف الثاني لعقد الستينات من القرن الفائت.
لقد أخّرت عامداً صفة (الشاعر) عن إلحاقه باسم هذا المبدع المتعدد الاهتمامات، لأنني شخصياً عرفته أول مرة بهذه الصفة، يوم اقتنيتُ في بدايات مسيرتي في طريق الشعر والأدب بعامّة، أول أعداد مجلة أدبية نجفية شاء ناشروها أن يطلقوا عليها اسم (عبقر)، وكتبوا تحت العنوان عبارة "حلقات تصدرها ندوة عبقر الأدبية"، وكان ذلك في شهر تموز من العام 1967? وبعد صدور خمسة أعداد منها توقفت عن الصدور لأسباب ماديّة في الأغلب.
ففي ذلك العدد الأول من (عبقر)، كانت ظهرت أسماء أدباء النجف الأشرف وشعرائها (صالح الجعفري، عبد الإله الصائغ، صالح الظالمي، محمد طالب محمد، مكي زبيبة، محمد الهجري، محمد حسن الأمين، زهير غازي زاهد، خضير عبد الإله، هاني فحص/ السيد اللبناني، عدنان الداعوق/ القاص اللبناني أيضا، سميّة العبيدي، محمد علي الخفاجي)، ومعها ومنها رزاق إبراهيم حسن تحت قصيدته (لغز المدينة)، التي انطلق فيها انطلاقة ذلك الشنفرى ـ الصعلوك الجاهلي الشهير ـ في واحدته الأشهر بين قصائد الشعراء الصعاليك (لاميّة العرب)، بأن كتب في مطلعها :"رحلتُ عن مصيركم وأبحرت خواطر الأنواء في خيالي/ وغامرت يداي في مفازة فقدت فيها قصة المَلالِ/ أجوب أعوام الضياع والرؤى تلفّني في حومة السؤال/ أسبر في الأصوات أرقب السُّرى قوافلاً تأكل من كلالي..."(ص51)? ليواصل الشاعر رحلة بحثه عن "مدينة دفينة"، عبر أربعة مقاطع طويلة امتدت على خمس صفحات من تلك الـ (عبقر).
ثم ـ باختصار شديد أيضاً ـ وجدت الصديق الشاعر النجفي أمامي ومعي في رحلة العمل الأدبي والصحفي، منذ أواسط العقد السبعيني من القرن الفائت، محرّراً في مجلة (وعي العمال) فمديراً لتحريرها، وناقداً وكاتباً متخصصاً في نقد القصة العمّالية العراقية والعربية، فضلاً عن عدد من المقالات والدراسات النقدية عن روايات عراقية وعربية، ومؤلفات جعلته المتخصص الأول بين مؤرخي تاريخ الحركات العمالية في العراق والدول العربية، عدا عن مقالاته التي راح يظهر اسمه عبرها في مجلات (الأقلام، الآداب ـ اللبنانية، الطليعة الأدبية، صحف عدة)، وقد سبق هذا كله أو ترافق معه صدور مجموعته الشعرية الأولى (أسرار قراءة الطريق/ 1973).
ولأن ما نشره كثير جداً، منذ دخوله إلى بغداد مع نخبة مهمة من أدباء النجف الأشرف، في سني العقد السبعيني وما تلاها، وما كُتب عنه ونُشر ـ ولاسيما بعد رحيله في مثل هذا اليوم من العام 2022 لاشتباه اصابته بكوفيد/19 أو جائحة (كورونا)، وفّاه بعض بعض حقه وبعض ما استحقه ويستحقه، فقد رأيت أن أستعيد عشرات اللقاءات في أماسي اتحاد الأدباء وفي ملتقيات متخصصة في الشعر والقصة والرواية، وما سجّله فيها من حضور واضح، بدءاً من تحيته وعباراته ومداخلاته التي لم تغادر ذاكرتي، تلك التي ظل فيها "نجفيّ" اللهجة من حيث الطيبة والبساطة والمفردات حتى، وكأنه ذلك الإنسان العصامي البسيط الذي عرفته سوح الطين، عاملاً في معامل الطابوق أو شابّاً يتردد بشغف على المكتبات العامة وباعة الكتب، وإن صار الشاعر الناقد الباحث الموسوعي والمسؤول عن إدارة صفحات ثقافية عدة، وعاش وسط مجايليه ومَن تلاهم من مبدعين غلبت على كثيرين منهم "نرجسية" شاء أن ينأى بنفسه عنها، حريصاً على أن يظلّ أخاً وصديقاً طيّباً.. بل إنساناً علّم نفسه ووضع مواهبه المتعددة في خدمة غيره، بعفوية وبساطة ومحبة.
إنه كأولئك السومريين والبابليين والأكديين الذين جعلوا من الطين تاريخاً حافلاً بالوثائق الخالدة، فصارت هذه المادة العاديّة جداً مكتبات وصحفاً اختزنت آداباً وعلوماً ومعارف استحقت الديمومة، وما تزال تستحق المزيد.