الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
هيبةُ التحّفظِ وهفوّةُ السؤال

بواسطة azzaman

هيبةُ التحّفظِ وهفوّةُ السؤال

رعد البيدر

 

حينَ يجمعُ تجاورُ الجلوسِ ركاباً في رحلةٍ طويلةٍ، يصبحُ الحديثُ مخرجاً وحيداً من سجنِ الرتابةِ وضيقِ المكانِ. إلا أنَّ ضيقَ المسافةِ المكانيةِ لا يمنحُ الحقَّ في تضييقِ فواصلِ الخصوصيةِ الشخصيةِ؛ فساعاتٌ عابرةٌ تُظهرُ الفجوةَ بينَ رقيِّ التوددِ وبينَ هفواتِ الأسئلةِ الفضوليةِ. لا تكمنُ رهبةُ اللقاءِ الأولِ في رصانةِ التحدثِ، بل في رغبةِ الفردِ أن يُبدي اهتماماً زائداً قد يرتدُّ بنتائجَ عكسية؛ إذ يجبُ على المرءِ ألا يتخطى حدودَ اللباقةِ فيقتحمَ الخصوصيةَ، ويتطفل بالأسئلةِ عن السنِّ أو الدخلِ أو السكنِ أو الماضي والوظيفةِ السابقةِ، فيتولدُ لدى الآخرِ شعورٌ بالرفضِ المبكرِ. ولا يُطالبُ المرءُ بتقييمٍ فوريٍّ لمكانتِه أو مظهرِه، كي لا يتزعزعَ الودُّ في الجلسةِ ويحلَّ التوجسُ محلَّ الطمأنينةِ، فالبداياتُ الناجحةُ مسارٌ يتخطى فخَّ الاستجوابِ ويكتفي برقيِّ الحديثِ.

يزدادُ تقييمُ اللباقةِ بمراعاةِ الابتعادِ عن الخوضِ في القضايا السياسيةِ أو المذاهبِ الدينيةِ أو أيِّ حدٍّ من الجدلِ القاسي؛ كونهُ يزرعُ بذرةَ النفورِ قبلَ أن تُتاحَ للقلوبِ فرصةُ التآلفِ، فيتولدُ النفورُ الفوريُّ بدلاً من بناءِ أساسِ تقاربٍ وفاقي. وعلى النقيضِ تماماً، يزدهرُ لقاءُ التعارفِ عندما يتسمُ التعبيرُ بالبساطةِ والشفافيةِ؛ فابتسامةٌ صادقةٌ تُبدي ارتياحاً، وإنصاتٌ فعليٌّ يوحي بالاهتمامِ، معَ مراعاةٍ تتبادلُ الاحترامَ، ولغةِ جسدٍ هادئةٍ وواثقةٍ تُوحي بتقديرٍ يبثُّ الطمأنينةَ ويغني عن البيانِ: «أهلاً بكَ كما أنتَ، دونَ ضغط، دونَ فضول «، فالمُبتغى الأسمى ليسَ جمعَ المعلوماتِ، بل فهمُ ذائقةِ الآخرِ والاحتفاءُ بوجودِه.

نجاحُ أيةِ علاقةٍ يرتكزُ على الالتزامِ بمسلماتِ الآدابِ الاجتماعيةِ، فالسؤالُ الذي ينطوي على خصوصيةٍ فائقةٍ أو تقييمٍ مُتعجلٍ، يقودُ الطرفَ الآخرَ إلى الشعورِ بالمضايقةِ وتفضيلِ الانسحابِ، بينما الودُّ المعلنُ والوضوحُ هما البناءُ الذي يؤسسُ لبيئةٍ مريحةٍ تمهدُ لبناءِ علاقاتٍ سليمة. وتتجاوزُ قيمةُ المسكوتِ عنهُ غالباً فائدةَ ما يتمُّ التحدثُ بهِ؛ فالحكمةُ في التحفظِ وفي نوعيةِ الأسئلةِ المطروحةِ هيَ المعيارُ الحقيقيُّ لتمييزِ بدايةِ تعارفٍ ناجحٍ.

تتلخصُ سطورُ التذكيرِ والتنبيهِ عن لقاءِ صدفةٍ أو لقاءٍ مقصودٍ بأنّ البدايةَ المتّزنةَ تتطلبُ صوناً للخصوصيةِ وترفعاً عن الجدلِ، ليحلَّ الانفتاحُ الهادئ محلَّ الاندفاعِ الفضولي، فمسافةُ التحفظِ تمثلُ جسرَ العبورِ نحو الموّدةِ الدائمةِ والوفاقِ المنشودِ؛ إنْ كانَ اللقاءُ لقاءَ دقائق أو لقاءَ ساعات.


مشاهدات 87
الكاتب رعد البيدر
أضيف 2025/12/25 - 2:09 AM
آخر تحديث 2025/12/25 - 4:08 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 156 الشهر 18436 الكلي 13002341
الوقت الآن
الخميس 2025/12/25 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير