أضغاث في حضرة أبي الطيب
علي السوداني
وجاءوا على سيرته العاطرة بنبأ كذب بعد أن سخّم قلوبهم وجعل واحدهم ينظر ببركة ماء نائم فيرى وجهه فيبصق عليه . تصادى الدرويش البارحة مع أبي الطيب المتنبي الذي أتته مذمةٌ تائهة من ناقصٍ فحمد ربه وباس كفه وجهاً وقفا وحصل على شهادة الكمال . قيل له لا تغضب ولا تحزن قال ما أنا بغاضبٍ على حثالة مواخير فضلت أثاث البطن على أثاث الضمير . قيل وقالوا ونافقوا وسمسروا ووعدوا وتوعدوا وسوروه بدائرة تامة لا رازونة بها ، لكنه أبى وبقي راسخاً على حرفه الشريف الحقّ يداورها فتدور ويطبخ الحصى بالماء فيخرج منه مرقاً طيباً حلالاً زلالاً إلى يوم تسودُّ فيه جسومٌ وتبيضُّ أُخريات .
ثم عادني أبو الطيب ثانيةً بليلة انتصاف القمر فوجدني أُخيم على حزنٍ شديد . لاصقني ومسد شعري وسألني عن سر هذا الكمد الذي يكاد يأكل ما تبقى من روحك والجسد ، ولما عجزت عن الجواب وصار هو بباب نفاد الصبر والدواء قال :
لا تحزن يا صاحبي فلقد مررتها قبلك وكانت ستطول لولا لقائي بفاتك الذي فتك بي لكنه أنجاني من حياة كانت مثل جبل على قلبٍ رهيف . قلت هل كتبتها خلاصة زبدة مركزة ؟
قال بلى والله ، ثم أنشد نائحاً نوح مظفر النواب :
بمَ التعلّلُ لا أهلٌ ولا وطنُ
ولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سكنُ
وبينا كنت أهمُّ بشبك عشري فوق رأسي وجعاً ، وقف الفارس على حيله ومدَّ يده نحوي فنهضت وسرتُ صحبته المباركة حتى أيقظني الديك الملعون . صحوت ولم أقدر على النوم الآن ، وكان يرنُّ برأسي بيت شعرٍ له طالما أرقني وأذهلني والتبس عليَّ المعنى والمبنى والمقصد البائن والمنجى الغاطس بقوله العجيب المتفلسف:
الظلمُ من شيم النفوس ،
فإن تجد ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلمُ