العدد الرابع من مجلة الثقافة الأجنبية لسنة 2025

رمضان مهلهل

عن دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، صدر العدد الرابع من مجلة "الثقافة الأجنبية" الفصلية لسنة 2025، ويقوم على محور فكري مهم يتمثل في الاستشراق وما بعده، وهو اختيار له ما يبرره معرفياً، نظراً لما لهذا الموضوع من راهنية فكرية واستمرارية نقدية في سياق العلاقة المركبة بين الشرق والغرب. ومواد العدد لا تتعامل مع الاستشراق بوصفه موضوعاً تاريخياً منتهياً، بل يعالجه بوصفه إشكالية معرفية متجددة، تتقاطع فيها السياسة بالثقافة، والتمثيل بالسلطة، والنقد بالنقد المضاد.

كان بناء هذا العدد وتنظيمه محكماً من حيث عرض المحتويات وترتيبها، إذ جرى توزيع المواد على محاور فرعية واضحة وهي: محور الاستشراق الكلاسيكي ونقد إدوارد سعيد؛ ومحور الاستشراق والاستشراق المضاد: نظريات ونقد متعدد التوجهات؛ ومحور الاستشراق في الآداب والفنون (تمثيلات الشرق في الإبداع)؛ ومحور الاستشراق والقرآن الكريم واللغة العربية (رؤى المستشرقين)؛ ومحور الاستشراق في أمريكا اللاتينية (توسّع جغرافي للنظرية)؛ ومحور حوار الشرق والغرب: استشراق واستغراب.   

جاءت افتتاحية العدد مكثفة، كتبها السيد رئيس التحرير الأستاذ كامل عويد العامري، قدّمت الإطار النظري العام لموضوعة الاستشراق بشكل وجيز بعيداً عن التكرار أو التبسيط، لمّح فيها إلى أهمية هذا المحور كون "قضية الاستشراق تظل واحدة من أكثر المساحات إثارة للحوار والنقاش، لا كموضوع تاريخي انقضى، بل كإشكالية حية تتجدد بتجدد العلاقة بين الشرق والغرب". ذلك لأن "كتاب الاستشراق [لإدوارد سعيد] ... فتح باباً كبيراً لم يُغلَق، بل تحوّل إلى منصة انطلاق لأسئلة أكثر تعقيداً وعمقاً". وبرغم تعقد الأسئلة بشأن الاستشراق، كان الانتقال بين المواد سلسلاً، يُشعِر القارئ بوحدة الموضوع بالرغم من تنوع زوايا الطرح.

هذا العدد من المجلة يتميز بغنى معرفي واضح، من خلال معالجة رؤى وأسماء فكرية مركزية مثل إدوارد سعيد، ورولان بارت، وهنري لورنس، وحميد دباشي، وغيرهم)؛ وكذلك الجمع بين نصوص نقدية، وأخرى تحليلية، وثالثة تطبيقية على الأدب والفن والدين. واللافت هو الانفتاح على النقد الغربي للاستشراق نفسه، وعدم الاكتفاء بالرؤية العربية أو الدفاعية، وهو ما يمنح هذا العدد الخاص توازناً معرفياً ويُبعده عن الخطاب الأيديولوجي الأحادي. فضلاً عن أن بعض الدراسات، ولا سيما تلك المتعلقة بالقرآن الكريم واللغة العربية، تُظهر حساسية علمية عالية في الطرح، مع وعي بإشكاليات الإعجاب والتشكيك معاً. وبرغم كل ذلك، تنطوي مواد المحور أحياناً على كثافة تركيبية عالية في بعض النصوص المترجَمة، قد تُثقل كاهل القارئ بسبب تشعّب الأفكار والرؤى وتراكم المفاهيم الفلسفية والنقدية والإدراكية.

وهذا بلا شك يفسّر النبرة العلمية النقدية الرصينة، البعيدة عن الخطابة أو التبسيط المخلّ، ويعكس الانسجام الواضح بين هوية المجلة الثقافية وبين طبيعة المواد المنشورة. فهي تخاطب قارئاً مهتماً بالفكر والنقد، وهو خيار واعٍ ومتسق مع تاريخ المجلة العريق.

ومن مواد هذا العدد الأخير من المجلة: كتاب "دفاعاً عن الغرب: نقد الاستشراق عند إدوارد سعيد؛ إدوارد سعيد وإعادة النظر في كتابه "الاستشراق"؛ الاستشراق وفق منظور إدوارد سعيد كما تصفه بيركت شيبلر؛ الاستشراق وما بعد الاستشراق: عشر سنوات من دون إدوارد سعيد؛ الاستشراق والاستشراق المضاد؛ الاستشراق وإرثه المستمر؛ النقد الغربي للاستشراق في فرنسا والولايات المتحدة؛ الوجه الآخر للاستشراق: شهوة المعرفة، المستشرقون وأعداؤهم؛ الاستشراق في "إمبراطورية العلامات" لرولان بارت؛ بين الشرق والغرب: البحث المعماري لبيير بوسان؛ الاستشراق ومناهضة الاستشراق في أدب مقاطعة الكيبيك الكندية؛ رواية "مورسامور" لـ خوان فاليرا بوصفها أدباً مناهضاً للاستشراق؛ مناهضة الاستشراق في رواية "قرية من حجر" للكاتبة غوو شياو لو؛ اللغة العربية والقرآن الكريم في عيون المستشرقين بين الإعجاب والتشكيك؛ القرآن في فكر ابن عربي؛ الاستشراق وإلغاء الاستشراق في أمريكا اللاتينية المعاصرة؛ الاستشراق والاستغراب: من التباعد الكبير إلى التقارب الكبير؛ ما بعد الاستشراق: مرآة حميد دباشي العاكسة للجدل ما بين إدوارد سعيد وسبيفاك؛ الشعر والنثر: دراسات المستشرقين الأدبية والفنية عن النهضة الحسينية.    

أخيراً، يمكن القول بأن هذا العدد يُعدّ ملفاً فكرياً متكاملاً عن الاستشراق وما بعده، يجمع بين العمق، والتعدد، والانفتاح النقدي. وهو يرسّخ مكانة مجلة "الثقافة الأجنبية" بوصفها منبراً ثقافياً جاداً، لا يكتفي بالنقل، بل يُسهم في إعادة إنتاج النقاش المعرفي عربياً. تقع المجلة في 274 صفحة من القطع الكبير ساهم فيها ثلة طيبة من المترجمين العراقيين والعرب.