مساج العقل.. عن مرتبة الألم والفرح في الأثر
أسماء محمد مصطفى
أغلبُنا يرى الفرحَ أقلَّ مرتبةً من الألم في الأثر...
الألمُ نزفٌ غيرُ مرئيٍّ ينضَحُ به وجودُنا وسطورُنا، وهو ما يقفُ وراء الكلماتِ والخطوات، مع فارقٍ بين مَن يكتب ويخطو حاملاً قنديلَ الأمل، ومَن يُطفئ نورَه.
لولا الوجع لبقيت الأوراقُ فارغةً باردةً. إنه يجيدُ الغوصَ حتى يختبئ في العمق، وينامَ في حضنِ الصمتِ الحكيمِ الخلّاق، تاركاً السطحَ للبهجة.
العذابُ هو الإنسانُ والحياة؛ لولاه ما عرفنا قيمةَ المسرّة، وما كتبنا، فهو موقدُ شعلةِ الإبداعِ أكثرَ من البهجة بأشواطٍ.
أمام الأسى تبدو المسرّة كحبة دواء نتناولها لتُسكِّن صداعَنا فقط، لكنها لا تعالجهُ تماماً، تمنحُنا شعوراً مؤقتاً بالراحةِ والهدوءِ والسكينة، مفعول المسكنات لا يستمرُّ طويلاً. فيروسُ المرارة لم يُكتشف له علاجٌ شافٍ كلياً.
لكن ذاكراتنا وإن كانت مُتخمةً وجعاً، إلّا أنّ نظرة بعضنا للآتي تتساوقُ مع سرورٍ نسعى إلى أن يولد من عمق الألم، لعلَّ ذاكرةً له تتشكلُ بعد حينٍ، وإن كانت صغيرةً، تمتزجُ مع ذكرياتٍ جميلة قديمة تبتسمُ خجلى في كهوفها النائية وسط نُواحِ الحزنِ الصامتِ.
نعم، صمتُ الألم يفوقُ صداه ضجّةَ الفرح، لكنّ من بئره يمكن أن نستخرجَ دلو السعادة.
فإن كانت قلوبنا وعقولنا تحتاجُ إلى ضرباتِ خيبةٍ ومكابداتٍ لتنضجَ وتقوى، فإنها تحتاجُ إلى جرعاتِ ندية من مسرّات لتستمر.
دور كومبارس
من الفرح العابر سريعاً قد لا ندركُ أننا تعلّمنا، كأنَّ نصيبه من امتنانِنا نصيبُ مَن يؤدّي دورَ كومبارس، لا يحظى بما يحوزه الهمّ في دوره الرئيسِ من تصفيقِ الجماهيرِ. فإن كان أثرُ العذاب جرحاً غائراً بسكينٍ حادٍّ، فإنّه يترسّخُ فينا لأننا نتوقُ إلى السرور، ولأنّ هذا الأخير حين مرّ بنا ضجَّ في دواخلِنا بصفيرِ قطاراتِه في محطاتِ مشاعرِنا، كأنه نداء عيد.
وعليه، ينبغي لنا ألّا نبخسَ قيمةَ البهجة في الأثر. إنها الضوءُ الذي نريدُ وراء ظلمةِ الأسى. إنها القطارُ الذي مرَّ بنا، ودغدغ طفولةَ أحلامنا، ونشاءُ عودته بعد مغيبٍ خدَّشَ براءة الشعور.
إذا تخيلنا الأفراح العابرة غذاءً، فإنها أقربً إلى أن تكون فُتاتاً على مائدة الحزن الراسخ، وإذا تخيلناها ضوءًا، فإنها أقرب إلى أن تكون شموعاً قصيرة الأمد في شمعدان الألم العميق، ولكن لنتخيل المصير الحالك لقلوبنا الغارقة في جوع وعتمة بعد كل صدمة عاصفة وتجربة مريرة، إذا لم تتناثر تلك الفتات، لتسد كفاف الروح، أو لم تتقد تلك الشموع بين انطفاءات الأعماق المتكررة
على مدى عمرٍ متخمٍ بالمرارة.
لولا البهجة وذكرياتها الممتدّةُ فينا، لما كان للوجع هذا الأثرُ العميقُ. فلنُصفِّقْ للفرح العظيم إذن، فهو وراءَ كلِّ عذابٍ عظيمٍ.
وإذا كان للعذاب عمقٌ، فللسرور معنى يتضح جلياً حين يطوي الأمس أوقاته، ليكون سطحاً نلوذ إليه، نسحب خيالاته في محاولة لنعيشه بقوتنا الداخلية، كي نتمكن من جعل الألم مرناً.
كلُّنا، بطريقةٍ ما، نود أن نقايض الوجع لنشتري لحظةَ غبطة يقف عندها الزمن، أو أن نتمكن من خلق التعايش المتوازن بين العذاب والسعادة، حتى وإن تحايلنا على أوجاعنا، كي نمنح أنفسنا ذريعة للبقاء.
فهل حقاً يرى أغلبُنا الفرحَ أقلَّ مرتبةً من الألم في الأثر؟!