الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
ماهي حكاية: نخلة وزيتونة ومنارة؟

بواسطة azzaman

فم مفتوح .. فم مغلق

ماهي حكاية: نخلة وزيتونة ومنارة؟

زيد الحلي

 

ما أعجب قدرة الإنسان على أن يحمل ذاكرته معه حيثما ارتحل ، فالذكريات، وإن غابت الوجوه والأماكن، تظل تسكن في زوايا الروح كأنها نبضها الدائم. وحين يمر الإنسان بظرف عصيب، لا يجد ما يواسيه ويعيد إليه توازنه سوى أن يستحضر الماضي، ويبوح بما خزنته الذاكرة من صور وحكايات وأسماء وأمكنة.

هكذا فعل صديقي الدكتور محمد فلحي في كتابه «نخلة وزيتونة ومنارة.. رحلة عراقي مهاجر إلى ليبيا»، إذ استعاد فصولاً من رحلته القاسية بعيدا عن وطنه، ليحول الألم إلى حكاية، والمعاناة إلى ذاكرة موثقة، تبقي التجربة حية في وجدان القارئ.

لقد كانت هجرته أواخر التسعينيات من بغداد إلى ليبيا، كرحلة آلاف العراقيين الذين دفعتهم ظروف القهر والجوع والحصار إلى البحث عن حياة أهدأ وأكثر أمانًا. غير أن الغربة، مهما كانت ضرورية، تبقى امتحانًا قاسيا للروح. فليس أشد وجعا من أن يغادر الإنسان وطنه ، وهو يحمل في قلبه قطعا من ذاته، كما قال الكاتب بعبارته المؤثرة: «لقد تركتُ في بغداد بضع قطع من قلبي، هنّ بناتي الأربع»

هذه العبارة وحدها تختصر حجم الفقد الإنساني الذي يعيشه المغترب. إنها ليست جملة عابرة، بل صرخة أبٍ يودع جزءا من عمره في سبيل البقاء.

ان سرد الذكريات في مثل هذه اللحظات، ليس ترفا أدبيا، بل هو شكل من أشكال المقاومة النفسية، يواجه به الكاتب العزلة والاغتراب والحنين. ففي الليل، كما يصف فلحي، حين «ينظر إلى سقف شقته الصغيرة وإلى الجدران فيشعر أن المكان يضيق عليه»، تكون الذاكرة هي نافذته الوحيدة نحو الضوء، نحو العراق الذي  يسكنه وإن غاب عنه. ومع مرور الوقت، بدأت ملامح الغربة تتبدد شيئًا فشيئًا، حين وجد الكاتب في ليبيا أصدقاء وأخوة خففوا عنه وطأة البعد، فتعرف على وجوه كريمة من الشعب الليبي، من بينهم الأديب سالم الهنداوي الذي كتب مقدمة الكتاب. وهنا يتجلى معنى آخر للذكريات، فهي لا ترتبط بالماضي وحده، بل تنسج روابط جديدة في الحاضر، تجعل التجارب الإنسانية أكثر دفئا وشمولاً.

إن أهمية هذا الكتاب لا تكمن في أنه يوثق رحلة عراقي إلى بلد عربي شقيق فحسب، بل لأنه يرسم ملامح الزمن الصعب، زمن القهر والصبر والانتظار، ويجعل من الحكاية الشخصية مرآة لجيل كامل عاش الغربة الجسدية والمعنوية. فكل صفحة من الكتاب تنبض بصدقٍ إنساني، وتختزن في طياتها وجوهًا وأحداثًا من عراق الأمس وليبيا الثورة وما قبلها.

ولعل أجمل ما في السرد أنه لا يكتفي بالتأريخ للأمكنة، بل يستدعي رموزا عميقة الجذور مثل النخلة التي زرعها جده، لتغدو رمزا للثبات والصبر والانتماء. فالنخلة هنا ليست مجرد شجرة، بل ذاكرة حية تمثل العراق نفسه؛ تمتد جذورها في الأرض رغم العواصف، وتظل واقفة في وجه الريح مهما اشتدت.

إن كتابة الذكريات، كما فعل  د. فلحي، ليست عودة إلى الوراء بقدر ما هي بحث عن الذات وسط العتمة، وإعادة بناء للروح التي تكسرت تحت وطأة المنافي. ففي كل استرجاع لحكاية أو مكان أو اسم، هناك محاولة خفية للشفاء، وللتصالح مع الزمن والذات والقدر.

هكذا تصبح الذاكرة وطنا بديلا حين يضيع الوطن الحقيقي، وتغدو الكتابة خلاصا يرمم ما تهشم في الداخل. ومن هنا تتجلى أهمية أن يكتب الإنسان عن ماضيه، لأن السرد لا ينقذ ما مضى فحسب، بل يمنح الحاضر معنى، والمستقبل أملاً.

شكرا دكتور لإهدائك  الكتاب ، المكلل بكلمات الود التي زينها خطك الجميل .

 

Z_alhilly@yahoo.com

 


مشاهدات 61
الكاتب زيد الحلي
أضيف 2025/10/18 - 2:54 PM
آخر تحديث 2025/10/19 - 2:35 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 86 الشهر 12369 الكلي 12152224
الوقت الآن
الأحد 2025/10/19 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير