الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
تشرين صرخة لم تُخمد

بواسطة azzaman

تشرين صرخة لم تُخمد

ياس خضير البياتي 

 

يذكرنا هذا الشهر وهذه الأيام أن تشرين 2019 لم يكن مجرد تاريخ على التقويم، ولا احتجاجًا عابرًا، بل انفجارًا هائلًا، صرخةً شعبيةً كسرت صمت عقود، وموجة غضب اجتاحت المدن، لتكشف الوجه الحقيقي للعراق: بلد ينهش فيه الفساد لحمته الشعبية، ويموت فيه الأمل، ويُستبدل الحلم بالكوابيس اليومية.

خرج الشباب والنساء والرجال إلى الشوارع حاملين سنوات من الإهمال والكذب والوعود المعلبة. تحولت الساحات إلى مسرح مأساوي، حيث الأرض والجدران تحكي قصص الشعب، والأرصفة صارت صفحات مفتوحة من الألم والضحك الممزوج بالسخرية.

في تشرين، كانت الصرخة أقوى من الرصاص، وأعلى من الغاز المسيل للدموع، وأكثر إرادةً من أي تهديد، وكأنها تقول: «سنموت أحياء قبل أن نموت أمواتًا صامتين».

لكن السلطة لم تنتظر لتكشف وجهها الحقيقي. الأحزاب والمليشيات والقوى الخارجية تآمرت على الثورة، وحوّلت ساحات الاحتجاج إلى مسرحٍ للفوضى والخوف. قتلوا الشباب بدم بارد، وعذبوا الآخرين، وحاولوا اغتيال الأمل نفسه في صدور المنتفضين. كانت هذه سياسة لإعادة فرض الهيمنة، وتحويل الشجاعة إلى جثث صامتة وقلوب منهكة.

ومع كل هذا الدم، بقيت لتشرين صورها المضيئة التي لا تُمحى من الذاكرة. ما زلنا نتذكر التوك توك وهو يتحول من وسيلة بسيطة للنقل إلى رمز للنجدة والبطولة، يحمل الجرحى ويشق طريقه وسط الرصاص كفارس عصري بلا سلاح.

ما زلنا نرى المطعم التركي وقد صار قلعة الحرية، وساحة للرأي والفن والخيال، جدرانه لوحات وذاكرته أغانٍ وصرخات. نتذكر معارض الشباب الفنية التي حولت الألم إلى ألوان، والجداريات التي صارت مرايا للأمل، ونتذكر التضامن الاجتماعي الذي أعاد صياغة مفهوم الأخوّة بين الغرباء. كانت تلك اللحظات القصيرة وطنًا بديلًا، أشد نقاءً من الخرائط وأصدق من البيانات.

لقد كانت انتفاضتهم بركانًا من الضمير الحي، وذكاءً اجتماعيًا فطريًا، ووعيًا بالحياة الجديدة التي استلهموها من التقنيات الحديثة، إلى جانب ما عانوه من جفاف البيئة ووجع المظالم، وتراكم السخط ورفض الأحزاب والتدخل الأجنبي. ومع كل قمع، كل دم مسفوك، كان الشباب يزدادون عزيمة. كل جثة، كل جريح، كل دمعة، كانت شعلة جديدة تضيء الطريق أمام الأمل.

لقد قطفوا أزهارًا عراقية ملونة من متنزه الوطن، من كل حارة وساحة ومدينة، فقط لأنهم قالوا: «شلع قلع» للأحزاب الفاسدة والعميلة، و»نازل آخذ حقي» لاسترجاع الحق الوطني، وإيقاف نزيف الوطن. جمال تلك الانتفاضة أنها عراقية، شبابية، عفوية؛ ليست «جوكرية» كما وصفها مرضى الخطاب السلطوي، ولا وافدة من الحدود، بل أيقونة عراقية صافية في أهدافها وأحلامها.

تشرين لم تمت. فهي باقية في ذاكرة الشعب، في شعارات الشباب، في الجدران الموشومة بالحرية، وفي قلوب من استمروا بالوقوف ضد الطغيان. شرارة رفضت أن تُطفأ، حلمٌ صار أقوى من الذل، وصرخة لن تُنسى مهما حاولوا محوها بالرصاص أو الرعب أو السموم السياسية. كانت أيضًا درسًا في الصبر والفلسفة الاجتماعية: علمت العراقيين أن الكرامة لا تُباع، وأن العدالة لا تُمنح بالوعود، وأن الشعب الذي يصرخ بالحق لا يمكن أن يُرغم على الركوع إلا إذا خسر أمله.

الثورة باقية في شوارع بغداد، في صرخات البصرة والناصرية، في أقدام الشباب، وفي كل قلب يرفض أن يتحول إلى رصاصة في مسرحية العبث السياسي. كانت مرآة للعراقيين: أظهرت قوتهم وأبانت ضعف السلطة، وأكدت أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع.

في النهاية، تشرين لم تكن احتجاجًا فحسب؛ كانت أدبًا ثوريًا مكتوبًا بالدم والعرق والدموع، رسالةً تقول: الحرية لا تُمنح، الأمل لا يُقتل، والكرامة لا تُباع. الشعب صامد، العدالة متأخرة، والسلطة تضحك… لكن تشرين باقية، كدمعة على خد الوطن، كابتسامة في وجه الموت، كصرخة لا تُنسى.وشهداء تشرين ما زالوا يهمسون لنا: «ارفعوا الصوت، قاوموا العبث، احلموا بالعدالة، فالحياة تستحق أن تُعاش بالكرامة لا بالذل».

وتبقى تشرين الشباب بركانًا مكبوتًا في وجدان العراق، جمرة تحت الرماد تنتظر ساعة الانفجار لتعيد للوطن صوته، وللحلم مجده.

 

 


مشاهدات 35
الكاتب ياس خضير البياتي 
أضيف 2025/10/05 - 2:49 PM
آخر تحديث 2025/10/06 - 5:11 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 209 الشهر 3622 الكلي 12043477
الوقت الآن
الإثنين 2025/10/6 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير