الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
ملحمة السيوف والنار… ذكرى الرد العراقي على العدوان الإيراني

بواسطة azzaman

ملحمة السيوف والنار… ذكرى الرد العراقي على العدوان الإيراني

حامد الضبياني

 

في ذاكرة الشعوب، لا تُسجَّل الحروب بوصفها أرقامًا ولا جداول خسائر، بل تُحفر كأنها جروح في الجغرافيا وندوب في الروح، وتُروى كملحمة يختلط فيها الدم بالشعر، والبارود بالأسطورة. والعراق، حين استيقظ على جرس الحرب مع إيران، لم يجد أمامه سوى خيار أن يكون هو الحصن الأخير لوادي الرافدين، أن يقف عاري الصدر تحت مطر الصواريخ والمدافع، حاملاً تاريخه كله، من سومر وأكد وبابل، حتى بغداد العباسيين، ليقول إن الأرض ليست صفقة، وإن الوطن ليس ورقة في بازار الطغيان.لم تكن الحرب وليدة نزوةٍ عابرة، ولا خلاف حدودٍ ضيّق. كانت فوهة التاريخ قد امتلأت بالبارود، وكان جرح الخليج يتهيأ للانفجار. إيران بعد ثورتها، وقد التبست شعاراتها بلهيب التصدير، أرادت أن تمدَّ أذرعها خارج حدودها، تبحث في الخرائط عن موطئ أقدام في البصرة والعمارة والكوت. كان صوتها يعلو بالادعاء، وكان جيشها يخطو بثقله نحو بوابات العراق، فكان لا بدّ من الرد. ومن هنا اشتعلت أولى شرارات النار، حين اندفع العدوان الإيراني إلى أرض الرافدين، فكان الرد العراقي صاعقة تزلزل التراب.وليس في التاريخ ما يفسَّر بالصدفة وحدها؛ العراق لم يبدأ الحرب، بل جُرَّ إليها كما يُجر الفارس إلى ساحة المبارزة حين يُستفزّ كبرياؤه. إيران أرادت أن تختبر صبر الجار، فوجدت أن الصبر العراقي إذا نفد تحوّل إلى بركان. وفي أيام معدودات، تبدّل المشهد: من جيشٍ ظنّ أنه سيعبر حدود البصرة كالنزهة، إلى قوافل جنود تاهت بين المستنقعات، ودماء سالت على ضفاف شط العرب. كان العراقيون آنذاك يعرفون أن خلف ظهورهم بغداد، وأن بيوتهم وحقولهم وأطفالهم هناك، وأن الانكسار ليس إلا موتًا بطيئًا يتسرّب إلى الروح.في تلك اللحظة التي انقلب فيها ميزان المعركة، تجلت بطولة الجيش العراقي، لا كقوة عسكرية فحسب، بل كملحمة بشرية استثنائية. الجندي البسيط، الذي خرج من قريته محمّلًا بوصايا أمّه ودموع أبيه، صار أسطورة تُروى في الميدان. كانوا يكتبون بدمائهم نصوصًا لا تشبه إلا الملاحم الكبرى؛ يقاتلون وهم يعرفون أن الموت واقف على الأبواب، لكنهم كانوا يرونه عروسًا أكثر من كونه كابوسًا. في البصرة، في ديالى، على طول الحدود، صارت الأرض منابر لبطولات لا تنسى.

وانتصار العراق لم يكن مجرد انكسارٍ لجيشٍ آخر، بل كان تثبيتًا لحقيقة أن هذه الأرض عصيّة على الابتلاع. لقد صمد العراق ثماني سنوات، لكن في الذاكرة الشعبية يبقى الرد الأول، تلك الصاعقة التي أعادت إيران إلى حدودها، هو رمز الكبرياء، هو اللحظة التي قال فيها العراقي: "هنا أرضي، هنا جذوري، هنا لن تعبروا."ولعل الفلسفة العميقة لهذه الحرب أن الانتصار ليس فقط في طرد المعتدي، بل في كشف جوهر الأمة حين توضع على المحك. العراق اكتشف نفسه في تلك النار؛ اكتشف أنه قادر على أن يكون أسطورة القرن العشرين في الصبر والصمود. لم يكن جيشًا فحسب، بل كان شعبًا بكامله يذوب في بزّة الجندي، من الفلاح الذي يودّع أرضه إلى الطالب الذي يحمل سلاحه، إلى الشاعر الذي يكتب على ضوء القذائف، إلى الأم التي تصنع من دموعها زادًا لأبنائها.اليوم، حين نستذكر تلك الأيام، فإننا لا نستعيد الحرب بقدر ما نستعيد دروسها. نستعيد كيف يتحول الضعف قوة، وكيف أن الشعوب إذا اجتمعت على الدفاع عن كرامتها تصبح أعظم من كل الأساطيل. نستعيد أن العراق، مهما تقاسمت عليه الخيانات أو تكالبت عليه الطامعون، سيظل يحمل في داخله سرّ الانتصار الأول، ذلك السرّ الذي لا يُكتب بالحبر، بل بالدم والعرق والصبر.

وهكذا، تبقى ذكرى الرد العراقي على العدوان الإيراني، ليست مجرّد فصل في كتب التاريخ، بل جرحًا يضيء، وشاهدة على أن البطولة حين تولد من رحم المحنة، تصير فلسفة في الوجود، وتجعل من العراق وطنًا أكبر من حدود، وأعمق من خرائط.


مشاهدات 207
الكاتب حامد الضبياني
أضيف 2025/09/23 - 3:35 PM
آخر تحديث 2025/09/27 - 5:41 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 170 الشهر 19407 الكلي 12037280
الوقت الآن
السبت 2025/9/27 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير