بائعة الجوز في أوسلو للروائي جمال حيدر
حسين ابو سعود
قل لي يا كل كلي من لي ان لم تكن نوري وظلي
بدأ الكاتب روايته (بائعة الجوز) بهذه المقولة العرفانية للحلاج ولا ادري ماذا يقصد بها ولا أريد ان افترض أي شيء خشية ان أكون مخطئا٠
الرواية تبدأ من بومباي المدينة الهندية المليونية الصاخبة ، شخص غريب قادم من لندن ليكتشف اسرار هذه المدينة الغامضة فيلتقي بامرأة هندوسية فقيرة من طائفة المنبوذين تبيع الجوز وتنشأ بينهما علاقة حب عاصفة وتتوالى الأحداث وتظهر قدرة الكاتب على التعبير وتصوير المشاهد بالكلمات فيجعل القارئ كأنه يرى الأحداث عن قرب ويسمع الاصوات وهو بلا شك متمكن من أدوات الرواية الناجحة وصاحب خبرة طويلة وعريقة في مجال الكتابة.
ولعل أجمل ما في الرواية أنها مقسمة إلى فصول غير طويلة ، عدة صفحات وتنتقل من مشهد إلى مشهد مما يجعل القراءة ممتعة و سلسة، وقد اعجبني فيها قلة عدد الشخصيات واهمهم الاب امير والام ريما والابن موهال٠
الحياة كلها صفحات مختصرة وإلا كيف لخص الكاتب حياة أسرة كاملة في صفحات/الجدة والأم والحفيدة وأختها ثم يموتون الواحد تلو الآخر حتى تبقى ريما وحيدة
مع ابنها الذي غادر ابوه تاركا الأم والابن في انتظار طويل لعله يرجع ويذيق الولد طعم الابوة ويعطي الزوجة معنى الزوج،
الكاتب دقيق جدا في وصف الاشياء،البيوت المتلاصقة والباصات والقطارات المزدحمة والفقر والحنين وقصص العشق والخطيئة.
الرواية بحيرة واسعة من الحزن تحكي قصص المعذبين والفقد والوجع والاماني التي لا تتحقق وحكايات الجسد واشتعال الشهوات واخطاء الفقراء،
اماني الفقراء لا تحققها المعابد ولا المساجد ولا الطلاسم ، فاالفقراء ليس لهم سوى الضياع في الزحام رغم الرحمة والرأفة الموجودة في رائحة الامهات والجدات.
الرواية من المدرسة الواقعية واسلوبها مباشر بعيدا عن الرمزية والسريالية والاسلوب المباشر الواضح أقدر على إيصال الرسالة الكامنة، والرواية فيها نكهة من أدب الرحلات والسيرة الذاتية وفيها إشارات لقضايا سياسية..
الكاتب الذي اعرفه ليس فقيرا ولكنه ابدع في تصوير معاناة الفقراء وعذابات الغرباء واحزانهم التي تهشم القلب واستطاع ان ينثر بين حكاياته بعض الاغاني الحزينة الطابع.
(تجلس هناك امام سلتها صامتة تراقب الطريق بينما يرقد موهال في حضنها ترفع عينيها بين الحين والاخر صوب الطبقات العليا من الفندق ، الى شرفاتها فلا تجد احدا)ص ١٠٦
موهال هو ابنها (ابن الفراش ) الذي كان يحلم بوجود اب يهرع اليه عند الحاجة ، الطفل وهو رضيع يحتاج احضان الاب وكل ما يكبر يحتاج الاب اكثر واكثر، لاسيما عندما يدخل الى المدرسة وفي كل مراحل الحياة ،ما اجمل منظر اب يدخل على ابنه وزوجته وبيده بعض الاشياء البسيطة كالملابس والاحذية وقطع من الحلوى.
موهال يكبر يوما بعد يوم يبلغ الحلم ويشتد عوده ، ولكن بلا اب ، موهال الصغير ينام ولكنه يستيقظ مرعوبا على حلم مخيف ولا يدري الى متى
تتبعه الكوابيس وما احلى عندما يستيقظ الطفل خائفا من نومه اثر حلم مزعج فيجد اباه الى جانبه فيحتضنه ويدفع الخوف عنه.
الرواية من اولها الى اخرها مكللة بالتوتر والدموع والاماني البعيدة ، موهال طالب يذهب الى المدرسة بدون مصروف جيب تتسمر نظراته على حانوت المدرسة ،
الاطفال يواصلون اللعب والركض في ساحة المدرسة فيما يبقى موهال ملتصقا بالجدار مدججا بالضياع يسكنه صراع نفسي كبير وتطوقه الحيرة حين يعجز عن الاجابة على السؤال المتكرر : متى سيأتي والدك؟ص١١٩
سؤال يقطع نياط القلب متوهما ان الاعزاء سيأتون لامحالة بعد مناداتهم.
كنت وأنا القارئ الذي يتفاعل مع شخصيات الرواية بسرعة أتمنى ان تكون النهاية سعيدة ولكن انّى للإنسان ان يتحكم بالنهايات، موهال يكبر ويخطئ ويدخل السجن وسجون الدول الفقيرة هي زنازين النهاية والقهر والعذاب اليومي.
أكملت الرواية ولم ادر من هو بطل الرواية الأم ريما أم الأب امير الذي تسبب في كل هذه المجريات أم هو موهال الطفل الذي تم إعدامه في النهاية، والرواية تصلح لان تكون فيلما سينمائيا أو مسلسل تلفزيوني مشوق على شكل حلقات والحق باني أجهشت بالبكاء عدة مرات وأنا اقرأ لاسيما عندما انطفأ آخر بصيص من الأمل وتحول إلى يأس كبير(لابد من الاعتراف ان النتائج الخاطئة تشيد في الغالب على بداية خاطئة لا تكفي حياة كاملة لإصلاحها)ص٢١٦.
(عندما قابلته في السجن آخر مرة استعادت شريط الذكريات منذ أيام الحمل وساعات المخاض وخطواته الأولى وتنفسه العميق حين ينام في حضنها ، يومه الأول في المدرسة ، خطوطه المتعرجة الأولى وهو يكتب واجبه المدرسي ومرضه الأول وخروجه من دونها اول مرة برفقة صديقه وحصوله على شهادتي الابتدائية والمتوسطة تقول لأبيه: أنا الذي ربيته.ص٢٢٢
الرواية هي رسالة هادفة وليست عبثا والروائي مصلح وليس مسترزق كما يفعل اصحاب الروايات العبثية المثيرة وهي قد تثير انتباه المجتمع لأكثر من الطفل موهال احترقوا وانتحروا والى نساء اكثر من الأم ريما اللاتي يتجرعن الحزن غصة بعد غصة بين أربعة جدران لفقد اولادهن.
انتهيت من الرواية بعد ساعتين من انتصاف الليل شعرت بحزن كبير أخرجني إلى الحديقة .
القصور لا تشيد على رمال متحركة، وريما بدأت حياتها بائعة جوز وانتهت حياتها كذلك بائعة جوز.
أقول ان الرواية فيها الكثير لتقرأ وتبلغ عدد صفحاتها ٢٢٩صفحة من القطع المتوسط وهي بقلم كاتب مقتدر حاصل على شهادة ماجستير في العلوم السياسية وصدرت له العديد من الكتب في مواضيع مختلفة كالنقد والأدب والاجتماع والرواية وأدب الرحلات والترجمة وبقي ان أقول بان الكتاب من إصدار دار لندن للطباعة والنشر في لندن.
واما كلمة اوسلو المضافة على عنوان المقال تعني ان الكتاب كان رفيقي في سفري الى هناك.