الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الحداثة في عقدة نابليون

بواسطة azzaman

الحداثة في عقدة نابليون

منتصر صباح الحسناوي

 

على شاشةٍ صغيرة يتنقّل ملايين الناس بين مقاطع فيديوية يرفعها أصحابها مع أناشيد استعلائية وتعظيمية، تارة يلوّحون بأيديهم كأنهم قادةُ جيوش، وأخرى يقفون أمام الكاميرا كما لو كانوا يملكون العالم بين أصابعهم، يعيشون لحظاتٍ خاطفة بشعورٍ زائفٍ كما لو أنهم  “الإسكندر المقدوني” .

هنا يتّعدى الأمرُ التسلية إلى صورةٍ جديدة من صور إشباع النقص، أو ما يمكنُ وصفه في علم النفس بـ «عقدة نابليون»، التي تجعل الصغيرَ يتقمصُ هيئة الكبير، والضعيفَ يتشبّع بوهم القوة. في الموروث الشعبي العراقي كثيراً ما نسمع عن الشخص الذي “يكبّر نفسه” بما ليس فيه، فيبالغُ في صوته أو سلطته ليعوّض شيئاً مفقوداً، وهذه الصورة تنسجمُ مع ما رصدهُ علمُ النفس منذ أكثر من قرن، عند وُصف سلوك نابليون بونابرت بأنّه انعكاس لشعور دفين بالنقص ، رغم أنه لم يكن قصيراً جداً بمقاييس عصره، فقد كان طوله يقارب 169سم، لكن الصورة التي رسمتها الدعاية البريطانية عن “القائد القزم” وجدت طريقها إلى الذاكرة العامة، حتى تحوّلت إلى مثالٍ على الشخص الذي يُغطي نقصه الجسدي بالسلّطة والهيمنة، ومن هنا جاء المصطلح الذي نعرفه اليوم: عقدة نابليون.

سلوكٍ مُفرط

تقوم هذه العقدة على مبدأ نفسي واضح: عندما يشعر الإنسان بضعفٍ في جانبٍ ما، يحاول أن يعوّضه بسلوكٍ مُفرط في جانب آخر.

 الصغير يصرُّ على فرض رأيه،

 الضعيف يتشبّث بالهيمنة،

والمهمَّش يبحث عن وسيلة ليلفت الأنظار … في الحياة اليومية نرى ذلك في المدير الذي يتعامل بصرامة مفرطة مع موظفيه أو في المسؤول الذي يرفض هيبته وسطوته أمام الجمهور أو في الشاب الذي يضخّم ذاته على المنصّات الرقمية كأنه يقود عالماً لا يراه أحد سواه.

ومن يقرأ الآن تتبادر إلى ذهنه مئات الأمثلة من حوله من المصابين بعقدة نابليون والأمر لا يتوقف عند الأفراد.

فالمجتمعات أيضاً يمكن أن تقع في أسر هذه العقدة، المجتمع الذي يشعر أنه مهمّشٌ أو متأخر قد يعوّض ذلك بخطابٍ استعلائي أو بممارسات قسرية تجاه أبنائه أو حتى بانغلاق على العالم الخارجي.  إنّه شكلٌ جمعيٌ من عقدة نابليون، يحاول أن يخلق صورةً متضخّمةً تعوّض شعوراً داخلياً بالنقص.

مقطعٍ موسيقي

في الماضي، كانت السلطة أو الجيوش أو المال هي ميادين استعراض القوة، أمّا اليوم فقد تغيّر المشهد وأصبحت منصات مثل تيك توك وإنستغرام فضاءً مفتوحاً لإشباع هذه الحاجة.

يكفي أن يرفع الشخصُ صوته بمقطعٍ موسيقي تعظيمي أو أن يُظهر نفسه في هيئةٍ بطولية ليحصلَ على جرعةٍ مؤقتةٍ من التصفيق الرقمي، لكنّه في العمق يعيد إنتاج الآلية نفسها: تغطية الضعف بالاستعراض، وتعويض النقص بصورةٍ قد تنهار في لحظةٍ حين تنطفئ الشاشة.

نحو وعي أعمق:

فهمُ عقدة نابليون لا نريد به الاستهزاء بأصحابها أو من يمارسها دون إدراك ، بقدر الوعي بالآلية التي تحركهم.

حين ندرك أن كثيراً من التصرفات السلطوية تنبعُ من شعورٍ داخليٍ بالقصور، يصبح التعامل معها أيسر.  العلاجُ الحقيقي يبدأ من التربية على الثقة بالنفّس وبناء المؤسسات التي تقوم على القانون لا على مزاج الأفراد، وإيجاد مساحاتٍ للتعبير لا تحتاج إلى تضخيم أو استعراض.

فعقدة نابليون درسٌ حاضرٌ في حياتنا المعاصرة يحتاج إلى قياداتٍ واثقة وبناءٍ مؤسسيٍ رصين بعيداً عن أوهام القوة التي تخفي ضعفاً داخليا.

عندها يتجاوز المجتمع  هذه العقدة وسيكون أقدر على تحويلِ طاقته من الاستعراض إلى البناء، ومن التعويض إلى الإبداع.

 

 


مشاهدات 89
الكاتب منتصر صباح الحسناوي
أضيف 2025/08/23 - 3:53 PM
آخر تحديث 2025/08/24 - 3:43 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 96 الشهر 16839 الكلي 11411925
الوقت الآن
الأحد 2025/8/24 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير