الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
أخادع نفسي بالصمت.. قراءة في عتمة البوح


أخادع نفسي بالصمت.. قراءة في عتمة البوح

محمد علي محيي الدين

 

حين يكتب الشاعر جبار الكواز قصيدته «أخادع نفسي بالصمت»، فإنه لا يركن إلى الصمت كزخرفة تأملية، أو كحالة ميتافيزيقية مجرّدة، بل يُمسي الصمت ذاته بطلاً مأزوماً، وحكايةً تتلو على القارئ تفاصيل خديعتها، بل خديعتنا جميعًا، نحن الذين نحتمي بالصمت لأن الكلام لم يَعُد مجدياً.

«هكذا إذن...»  بهذا الاستهلال القصير الحادّ، يفتح الشاعر باب النص، كما لو أنه يضع نقطة نهاية لجملة طويلة من الخيبات. لا حاجة هنا لتمهيد، فالجملة تأتي كشهقة أخيرة بعد ضيق، وكأنها تصافح قناعة لا تحمل أي عزاء.

يندفع الشاعر بعدها في رحلة داخلية طويلة، عبر صورة من أبلغ ما صاغه شعرنا المعاصر:

«مازلتُ أبحثُ عن خيطِ بكاءٍ في بئرِ أسئلتي»

يا لهذا البكاء الذي لا ينسكب، بل يتوارى في الأعماق كخيطٍ خجول، ويا لتلك الأسئلة التي لم تُطرح لتُجاب، بل لتظل معلّقة في هوّة بلا قرار. هكذا تتشكل نغمة القصيدة: مزيج من حيرة الوجود، ووحدة السؤال، وعقم اللغة في زمن أوصد فمه على نفسه.

في عالمٍ تنكر للكلمات، تتحول الأسئلة إلى كائنات صامتة، لا أحد يتجرأ على الإشارة إليها، كأنها عارٌ ينبغي ستره، أو وجعٌ يصعب تحمّله. ثم يتوالى المشهد الشعري بصورته السريالية الكثيفة:

«حين يزدحم الذباب على شفاه العسل»

ما أوجع هذا الانقلاب؛ فالعسل الذي هو رمز النقاء والصفاء، تغزوه أسراب الذباب – رمز القبح والدنس – في استعارة موجعة لزمن يُدنّس فيه الجمال، ويُخرس فيه الكلام، وتُبتذل فيه الحقائق.

وفي سؤالٍ يرتجف كأنه خارج من جوف الذات، يعلن الشاعر حيرته:

«كيف أعرّف صمتي / وهو لا يمتّ بصلة إلى همس الأجراس؟

ليس الصمت الذي يعرفه صلاة أو طقسًا روحانيًا، بل هو صمتٌ آخر: صمت العجز، صمت الخديعة، صمتٌ لا يشبه الكنائس ولا القلوب، بل يشبه الريح وهي تعري الحقول وتطفئ أنفاسها. حتى الحقول، في عالم القصيدة، أصابها الذبول:

«الحقول التي أمحلها الصمت / حين سكّر ضفافها الخرس»

كل شيء صامت، لا لأن في الصمت حكمة، بل لأنه صار لعنة تغلّف الأشياء، وتخنقها حتى الاختناق.

ثم تلوح صورة أخرى للفجر، لكنها لا تشبه ذلك الفجر الذي يتغنى به الشعراء، فهنا:

«ومن لي بفجرٍ تفتق ضوؤه بتثاؤب عمال المساطر؟

يا لهذا الفجر المنكسر، الذي لا ينهض بالأمل، بل يبدأ بتثاؤب الشقاء، وعرق البسطاء، وأحلامٍ تُقطع قبل أن تكتمل. ليس في الفجر خلاص، بل تكرار ليوم يجهض الحلم مع طلوعه.

ويتساءل الشاعر في ذروة مرثيته:

«والموتى حكاؤون احترفوا أناشيد العذاب»

حتى الموتى، أولئك الذين يقال إنهم طواهم الصمت، يغدون هنا رواته الأصدق. صمتهم ليس فراغًا، بل سردٌ من نوع آخر، سردٌ تحمله رمزية الأناشيد والعذاب.

ثم تتراكم استعارات الصمت:

«الصمت حلم، الصمت مفتاح، الصمت خطى منسيات»

هكذا يتوسّع معنى الصمت حتى يغدو كيانًا مطلقًا، لا سكونًا فحسب، بل حركة داخل الظل، وعبورًا في الفراغ، ولغة لا تحتاج إلى نطق.

وفي لحظة عارٍ صادق، يتمنى الشاعر أن يغرق في هذا الصمت لا ليستكين، بل ليتطهّر، أو ليتلاشى دون أثر، قائلًا:

«فأعرني جناحًا منه لأنغمس في تبره، وأصمت»

لكن حتى هذا الصمت المنشود، يظل وهمًا آخر، فلا شيء يبقى سوى: «صمتكِ» الذي يشير إلى حضور غامض، امرأة؟ فكرة؟ وطن؟ لعلها كل ذلك معًا، أو لا شيء منها، لكنه صمتٌ له اسم، وله ظل، وهو أكثر وحشةً من الكلام.

وفي نهاية المقطوعة، ينهار القناع، ويظهر الشاعر على حقيقته:

«وأنا ما زلت أخادع نفسي بالصمت، فمتى أتكلم إذن؟

هذا السؤال لا يطلب جوابًا، بل يُطلق صرخة الوجود الأخيرة. هو سؤالٌ يُنهي الصمت ويبدأ البوح، لا بوصفه نجاة، بل بصفته ضرورة نفسية لا بد منها كي تستمر الذات في العبور، وإن كانت مثخنة بالجراح.

خاتمة: الصمت كلغة عليلة للنجاة

البقية على الموقع الالكتروني

في قصيدة «أخادع نفسي بالصمت»، يكتب جبار الكواز نصًا لا يُقرأ بالعقل وحده، بل تُحسّ ملامحه بالقلب، وتُلامَس شروخه بالحواس. هو شاعر لا يصف الصمت بل يسكنه، ويمرّ من خلاله إلى هاوية الذات، ليتأمل الجرح، لا كي يضمده، بل ليشهد عمقه.

هذه القصيدة، بما تحمله من صور مركبة، ورؤى سوداوية نبيلة، ليست شكوى بل شهادة، وليست نجوى بل كتابة على جدار الصمت تقول: «أنا ما زلت أختبئ هنا... ولكن، متى أتكلم؟»

 

(أخادعُ نفسي بالصمت)

نصّ/جبّار الكوّاز

هكذا إذن. ....

مازلتُ أبحثُ عن خيطِ

بكاءٍ

في بئرِ أسئلتي

أسئلتي صامتةٌ

لا أحدَ يشيرُ اليها بكلامِ

وهي

تتأسّى بأفولِ الأجوبةِ

وبوهمِ جمالِها

حين يزدحمُ الذبابُ على شفاهِ العسلِ

كيف أعرّفُ صمتي

وهو لايمتُّ بصلةٍ الى همسِ الأجراسِ ؟!

أجراسِ كنيسةٍ مسبيّةٍ

أم

أجراس قلبٍ أوشكَ ٱن تخذلَه الرؤيا؟!

الرؤيا التي أولمَتْها النوايا

وهي

تطاردُها عَلَنا

وقد خدعتَها أسرابُ القطا

في الحقول،

الحقول

التي أمحلَها

الصمتُ

حين سكّر ضفافَها

الخرسُ

من تعريةِ الرياحِ.

فمن لي بصمتٍ لا يشبهُه الفجرُ؟!

ومن لي بفجرٍ تفتّقَ ضوؤُه بتثاؤبِ عمّالِ المساطرِ؟!

حينَ لا تُقطعِ أحلامُ العشاقِ في حقولِ الخوفِ

وصمتِ الموتى،

والموتى حكاؤونَ

آحترفوا أناشيدَ العذاب

وهيَ صمتٌ

والصمتُ حلمٌ

الصمتُ مفتاحٌ

الصمتُ خطى منسيّاتُ

فأعِرني جناحا منهُ لأنغمسَ في تبرِهِ

وأصمتُ......

دون إشارةٍ

أو مفتاحٍ

أو .......

لا شيءَ سوى صمتِكِ،

وأنا ما زلتُ أخادعُ نفسي

بالصمتِ،

فمتى أتكلّمُ

إذن؟!


مشاهدات 35
الكاتب محمد علي محيي الدين
أضيف 2025/08/16 - 11:21 PM
آخر تحديث 2025/08/17 - 1:22 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 69 الشهر 11682 الكلي 11406768
الوقت الآن
الأحد 2025/8/17 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير