إختفاء أماني
نضال الجزائري
نسبت وزارة التربية، خلال الستينيات، معلماً كركولياً، الى إحدى مدارس تلعفر في الموصل.. جنوباً؛ إستأثر بمحبة الأهالي، لفرط إستقامته الأصيلة؛ وفي غضون عام تعرف الى بنت حلال، تقدم للزواج منها، محفوفاً بقترحاب ذوي العروس والقرية كلها؛ لأنه مربِ فاضل، رزق منها ثلاث بنات وولدان، مكوناً أسرة سعيدة، زانت محبة الناس بإحترم أوفى عيشه إرتياحاً، وهو يواصل تدريس أبناء القرية بضمير حي.
مر عقدان من سنوات مفعمة بالتفاؤل، أي مطلع الثمانينيات، حيث بلغت كبرى بناته.. أماني العشرين من عمرها، مكتفية بالثانوية، عطفاً على تقدم عجوز من اطراف الموصل البعيدة، تخطب أماني لإبنها،؛ فتريث ليسأل عن العائلة ويطلع على إشتمالات حياتها، مستأنساً بما يقرره أخوالها؛ فأخبروه: العائلة تسكن في اطراف القرى.. بيوتاً متجاورة، لا أب لهم.. شبه معزولين.. تتألف الأسرة من أم وأبنائها إثنين متزوجين وولدين أعزبين.. أخواتهم متزوجات، والكل يسكن معاً.. ناجحون في كسب رزق متقطع، يوم عدهم ويوم لا، إلا أنهم يعيشون سلاماً.. لا مشاكل ولا مشاجرات مع اهل القرية.
ثمة غموض يغلف حياتهم؛ لعدم التواصل مع مناسبات أهل القرية.
إكتفى المعلم بهذا الكلام، إطمئناناً الى أنهم لا تشوبهم تصرفات غير أخلاقية، سائلاً أبناء القرى المجاورة، البعض يخبره بأنه لا يعرفهم، وآخرون يخبرونه أنهم ناس بحالهم.. ما سمعنا عنهم مشاكل.
وافق وتواعدوا على الخطوبة بعد عشرة أيام، ...، تزوجت البنت بعرس بسيط وساعدهم المعلم بنفقات الزواج لضمان سعادة بنته وراحتها، تاركة فراغاً في بيت أهلها؛ لأنها الكبرى.
مر إسبوع.. إسبوعان، شهر.. شهران، لم تزر أهلها والأب المعلم، يسأل زوجته: معقولة أماني مااشتاقت لنا؟ ليش ما تزورنا؟ ويبرر غيابها بأعذار.. ربما مشغولة مع زوجها؟ فهو عسكري ووقته ليس ملكه.. إنتهى رمضان وأفل عيد الفطر، حل عيد الاضحى، ولم يبقَ في القوس منزع؛ فبادر الأب بالتوجه إليها في بيت الزوجية، بعد حلم مزعج فز منه منتصف الليل قلقاً.
صباحاً طلب من إبنه الذهاب للإطلاع على حال أخته، موصياً: حسسها بأنك قادم في زيارة عتب وغيظ.
حصل على العنوان من أخواله الذين إستغربوا إنقطاعها، متوجهاً الى بيت أخته، وبعد عناء وصل البيت.. يطرق الباب ولا من مجيب.. لا أحد وظل يطرق الباب، صائحاً: أماني أنا أخوك.
باب وأخرى.. يطرق ويطرق، حتى فتحت العجوز الأم الباب: من أنت؟ ماذا تريد؟ لماذا تطرق الباب؟ عسى يدك إنكسرت.
رد أخو أماني: أنا أخو أماني.
قالت العجوز: الله يلعنك، أنت وأهلك وأختك.. يسود وجوهكم.. يا أخا الساقطة.. الفاجرة التي هربت مع شخص وتركت زوجها.
أجاب الأخ: ولماذا لم تخبرونا!؟
أكملت العجوز: لا يشرفنا إخباركم، ولا نريد فضح نفسنا.. إطلع، لا نريد رؤيتكم، ياعار.
وغلقت الباب بوجه؛ فعاد راكضاً الى أخواله وخبرهم بالسالفة؛ فآثروا رمي العقال أرضاً، وعدم إرتدائه إلا عند قتل البنت وراحوا لبيت المعلم.. أبو اماني، يعاتبونه: بنتك هاربة مع عشيقها.
إنها الأب وأغمي عليه فنقلوه الى المستشفى، يعاني ضغطاً وسكراً؛ أديا الى گنگرينه وبتروا أجزاءً من أصابعه.
حضر الأعمام والأخوال، في بيت زوج أماني... وجدوه نعجة.. خبيث خنيث، قائلاً: يسود وجوهكم أنتم بلا شرف بعد ما هربت طلقتها ولم أخبركم لأني لا أريد أن أفشل نفسي.. عاركم عليكم.. روحوا إبحثوا عن بنتكم الفاجرة، وأنا سوف أتزوج.
أظناهم البحث عنها من الشمال للجنوب، ولم يصلوا ولا الى خيط رفيع يطلعهم على الحقيقة الغامضة التي تنوء بها القصة، هستيريا أصابت الأم من 1980 الى 1988 وفي زخة مطر غزيرة أغرقت الموصل وكركوك وأربيل ودهوك والمدن المحيطة بحوض الموصل، حيث نزلت السيول تكتسح المزارع والقرى.
هرب من واتته فرصة النجاة، تاركاً كلشي، وراءه نهباً للسيول العاصفة، ومن لم يستطيع اللحاق بحياته.. غرق، ولأن أغلب بيوت القرى طين وحجر، جرفها الفيضان.
الى أن... إنهار كل شيء وعادت الطبيعة محواً... توقفت الأمطار وهدأ الجو، وعاد الناس.. كل الى رزقه يسعون بعد الدمار.
صادف مزارع من قرية أهل أماني ينظف بستانه من أثر الفيضان، فشاء قضاء الرب أن تلقي الأرض بأحمالها من جثث وأعمال سحر مدفون ووو، لكن ما لفت إنتباه المُزارعِ جوال – يسمى شعبياً (گونية) حاول إستلالها من تحت الأرض، فوجد تحت النسيج شيء يتفتت داخل الجوال، مغلف بنايلون ولما أتم إخراجها، وجد فيها بقايا جثة بشرية؛ فذُعر راكضاً يبلغ الشرطة والأهالي؛ ليتضح أنها فتاة في إصبعها خاتم.. ثيابها ممزقة والجثة متحللة، أثبت الطب العدلي عمرها عشرون عاماً.
الشرطة إستقدمت العوائل المقدمة بلاغات بفقدان بناتهم، ومن ضمنهم أهل أماني، وحالما رأتها الأم، صاحت:
- إشتريت هذا الخاتم لبنتي يوم زواجها وحضر الجميع.. الأخوال والأعمام والأب.
جيء بعائلة الزوج، معترفين بأن أماني لا عشيق لها، ولم تهرب مع أحد، إنما الشقيق الأصغر من زوجها، راودها عن نفسها؛ فقاومته؛ وخافت العائلة من إنتشار الفضيحة عندما قررت العودة الى بيت أبيها؛ فتعاونت العجوز وزوجات الأخوة والأخوة والأخوات على قتلها... فضلاً عن كونها إكتشفت سر عملهم.. عمل الأولاد بقيادة الأم العجوز، وهو التسليب والقتل.
حكم القضاء على زوجها وأخوانه بالإعدام وزوجاتهم بالسجن خمس عشرة سنة والعجوز عشر سنوات وماتت في السجن.