الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
حين تُحرم غزّة من السياسة .. مأساة يصنعها الصمت

بواسطة azzaman

حين تُحرم غزّة من السياسة .. مأساة يصنعها الصمت

محمد علي الحيدري

 

غزة لا تُباد فقط بالقنابل، بل تُمحى حين تُستثنى من السياسة، حين يُحاصر صوتها كما يُحاصر ترابها، وحين يُنتزع منها حق الوجود في الخطاب الرسمي، لتُختزل في كلمة: “الوضع في الجنوب”. إن أعظم ما ارتكبه النظام الإقليمي والدولي بحق غزة ليس فقط السكوت عن المجازر، بل تحويلها إلى فراغ سياسي، إلى ساحةٍ خارج اللغة، وخارج الجغرافيا، وخارج مفهوم “الشعب” و”القضية” و”التمثيل”.

فغزة، منذ أعوام طويلة، لا تُعامل كجزء من كيان سياسي، بل كحادث جانبي، كمنطقة شائكة يُفضَّل تجاوزها في الخطابات الرسمية والقمم الثنائية والبيانات الختامية. وعليه، فإن استباحة الدم فيها تصبح ممكنة، لأنها تقع خارج الاعتراف، خارج الحدود التي تُحسب فيها الأكلاف والردود والمصالح.

من هنا تبدأ الخطيئة. حين يُراد لغزة أن تكون عبئًا إنسانيًا فقط، لا قضية سياسية. وحين يُعاد تعريفها بوصفها “أزمة إنسانية” دائمة، فإن المقصود بذلك هو سحب الشرعية عنها، وتجريدها من أدوات الفعل والتمثيل والحضور، كي تبقى عالقة في زوايا الخجل الدولي، ومشاريع الإغاثة، وتكتيكات التهدئة.

لا نُصرة لغزة ما لم تُسترد سياسيًا. لا نُصرة ما لم نكسر العزلة المضروبة حولها لا بالحصار فحسب، بل بالمنع المتواصل من أن تكون فاعلًا في المعادلة، لا ضحية يتسوّل الآخرون من أجلها.

إن كلفة هذا النفي السياسي كارثية: فهو ما يُتيح وصف المقاومة بالإرهاب، وما يُشرعن بقاء الاحتلال دون تبعات، وما يجعل العدوان المتكرر يُقرأ وكأنه رد فعل على خلل أمني، لا جريمة مستمرة ضد كيان يريدون محوه من الذاكرة.

والأخطر أن هذا الإقصاء لم يأتِ فقط من الخارج. بل ساهمت فيه أطراف داخلية وإقليمية، أرادت لغزة أن تُدجّن أو تُعاقَب أو تُحرَق لتكون عبرة. وحتى حين تتصدر المجازر الشاشات، تبقى غزة في القاع من الحسابات، كأنها صوت غير مرغوب فيه، كأن بقاءها حيّة يربك المعادلات. إن غزة تُنصر حين تصبح مركزًا لا هامشًا، حين يُستعاد صوتها لا بوصفها مأساة، بل كإرادة، كحقّ، كطرف يُخاطب ويُستشار ويُعترف به، لا يُطوّق أو يُترَك ليذوي. وإلى أن تُستعاد السياسة إلى غزة، فإن كل دم يُراق فيها سيظل شهادة على جريمة مزدوجة: جريمة القتل، وجريمة الصمت.

 

 

 


مشاهدات 44
الكاتب محمد علي الحيدري
أضيف 2025/08/05 - 3:50 PM
آخر تحديث 2025/08/06 - 2:02 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 66 الشهر 3761 الكلي 11298847
الوقت الآن
الأربعاء 2025/8/6 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير