الذكاء الإصطناعي ودبلوماسية السلام.. أداة للتقارب أم وسيلة للتضليل ؟
اثير هلال الدليمي
بينما تتسارع التطورات التقنية في العالم بشكل غير مسبوق، أصبح الذكاء الاصطناعي حاضرًا بقوة في ميادين السياسة الدولية والدبلوماسية، بل ويتحول تدريجيًا إلى أحد العوامل الفاعلة في صناعة القرار وتوجيه الرأي العام. ومع صعود دبلوماسية السلام كخيار استراتيجي في عالم يعج بالنزاعات والأزمات، يبرز سؤال ملحّ: هل يمثل الذكاء الاصطناعي أداة لتعزيز الحوار والتفاهم بين الدول، أم بات وسيلة خفية لإنتاج التضليل، وتوجيه المفاوضات نحو أهداف خفية تخدم أجندات قوى بعينها؟
لقد أصبح من الواضح أن الذكاء الاصطناعي لا يُستخدم فقط في تطوير الصناعات أو تحسين الخدمات، بل تسلل إلى أعماق الحقل الدبلوماسي، حيث باتت كثير من الحكومات والمؤسسات الدولية تعتمد على أدواته لتحليل الأزمات، واستشراف مآلاتها، وتوجيه خطابها الدبلوماسي بناءً على تحليلات دقيقة للمزاج الشعبي ولغة الخطاب الإعلامي. ففي قاعات المفاوضات، لم تعد مهارة التفاوض وحدها هي العنصر الحاسم، بل باتت البيانات التي يحللها الذكاء الاصطناعي هي التي ترسم ملامح الموقف، وتحدد لهجة الحوار واتجاهه.
صانعي قرار
في هذا السياق، يبدو الذكاء الاصطناعي وكأنه يمـــــــــــنح الدبلوماسية أداة استـــــــــباقية فعالة. فمن خلال قدرته على قراءة المؤشرات الاقتصادية والسياسية والأمنية، بات بالإمكان التنبؤ بنشوب نزاع ما قبل وقوعه، مما يمنح صانعي القرار فرصة التدخل المبكر والحد من التصعيد. كما تتيح تقنيات الترجمة الفورية وتحليل الخطاب عبر الذكاء الاصطناعي فرصًا لتقليص الفجوات الثقافية واللغوية بين الأطراف المتنازعة، مما يعزز احتمالات التفاهم، ويُسهم في تهدئة الخطابات المتشنجة.
لكن هذا الوجه المضيء يخفي خلفه ظلالًا داكنة لا يمكن التغاضي عنها. فمع التقدم التكنولوجي، برزت ظاهرة «الدبلوماسية المضللة» التي تُمارس عبر الذكاء الاصطناعي بوسائل قد لا تبدو مباشرة، ولكنها ذات أثر عميق. إذ أصبحت أدوات الذكاء الاصطناعي تُستخدم لتصنيع محتوى زائف عبر تقنيات التزييف العميق (Deepfake)، يُنسب زورًا إلى زعماء دول أو شخصيات دبلوماسية حساسة، مما قد يفتعل أزمات أو يخرّب مسارات التفاوض. كما أن الحملات الرقمية المبرمجة، والموجهة عبر خوارزميات معقدة، تُستثمر بشكل واسع لتوجيه الرأي العام، سواء داخل الدول أو في إطار العلاقات الدولية، بما يخدم روايات معينة ويقوّض مصداقية الخصوم.
وفي خضم هذا التنافس، تتحول بعض منصات التواصل الاجتماعي إلى ميادين معارك دبلوماسية غير معلنة، حيث تُدار حملات التضليل وتروّج الأخبار الكاذبة بواجهات تبدو «إنسانية» ولكنها في الحقيقة محكومة بخوارزميات مدربة على تحقيق أهداف سياسية ناعمة. ومن المؤسف أن هذه الممارسات غالبًا ما تتم خارج أي إطار قانوني دولي، مما يعكس فجوة تنظيمية كبيرة تهدد مصداقية الفضاء الدبلوماسي بأكمله.
المفارقة أن نفس الأدوات التي قد تُستخدم لتعزيز السلام، يمكن أن تكون ذاتها وسائل لنسفه من الداخل.
أسلحة رقمية
فبينما تتيح تقنيات الذكاء الاصطناعي إمكانيات هائلة لفهم تعقيدات النزاعات واقتراح حلول بنّاءة، فإنها، في غياب ضوابط أخلاقية وتشريعية، قد تتحول إلى أسلحة رقمية لتزييف الوعي، وتوجيه القرارات، بل وخلق سرديات كاملة لا أساس لها من الواقع.إن دبلوماسية السلام في عصر الذكاء الاصطناعي تقف عند مفترق طرق. فإما أن تُوظف هذه التقنيات لصالح البناء والتفاهم والتقارب، أو يُترك المجال لاستخدامها في تقويض الاستقرار، وتسميم العلاقات الدولية بالمعلومات المزيفة والخطابات المضللة. ومن هنا تبرز الحاجة الملحة إلى تأسيس إطار دولي جامع ينظم استخدام الذكاء الاصطناعي في المجال الدبلوماسي، ويضع حدودًا أخلاقية واضحة تحول دون تحوله إلى فاعل غير مرئي في صراعات النفوذ.ختامًا، ليس الذكاء الاصطناعي في ذاته خيرًا أو شرًا، بل هو انعكاس مباشر لنيات مستخدميه. وإذا كان من الضروري اليوم أن نفتح أعيننا على مخاطره، فإن الأهم أن نعمل على تحويله إلى رافعة حقيقية لدبلوماسية السلام، من خلال توظيفه بشكل مسؤول، وبناء تحالفات دولية تضع التكنولوجيا في خدمة الإنسانية، لا في خدمة الأجندات الخفية.
دكتوراة في القانون الدولي العام ومتخصص في الأمن السيبراني