الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
حداثة بلا جذور شرقية

بواسطة azzaman

حداثة بلا جذور شرقية

سيف الحمداني

 

منذ أكثر من قرن، والعالم العربي يخوض تجربة متكررة في محاولة بناء الدولة الحديثة على النمط الغربي، لكن في بيئة شرقية لها سياقها التاريخي المختلف، وثقافتها المتراكمة، وتركيبتها الاجتماعية المتشابكة. ولم تكن المشكلة في فكرة التحديث بحد ذاتها، بل في الطريقة التي جرى بها نقل ذلك النموذج: استيراد جاهز لمؤسسات وهياكل، دون المرور بمسار النضج الداخلي الذي مرّت به تلك النماذج في بيئتها الأصلية.

الغرب لم ينهض بين ليلة وضحاها، بل نهض بعد قرون من المخاض العنيف: صراع بين الكنيسة والعقل، تحولات اقتصادية عميقة، وثورات اجتماعية أنهت الإقطاع وحرّرت الفرد من أسر الجماعة. أما نحن، فقد قفزنا على هذا التاريخ الطويل، وأردنا أن نبني دولة حديثة بمجرد الإعلان عنها، دون أن نُمهّد لها بنية ذهنية وسلوكية وثقافية تؤهلها للحياة.

في العراق، كما في عدد من الدول العربية، تبدّت هذه الازدواجية منذ البدايات: دولة تتبنى شكل القانون المدني، لكنها تُدار بأعراف غير مدنية؛ برلمان منتَخب، لكنه محكوم بمعادلات المحاصصة؛ نظام تعليمي حديث المظهر، لكنه يُنتج عقلًا تقليديًا مكرورًا. هذه المفارقة لم تكن سطحية، بل عميقة، أثّرت في جوهر العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين الحاكم والمحكوم، وبين الخطاب السياسي والواقع اليومي.

لقد تحوّلت "الحداثة" في كثير من تجاربنا إلى ما يشبه القناع الجميل فوق وجه مضطرب. حداثة سطحية، لا تنبع من داخل المجتمع بل تُفرض عليه؛ تتجلى في الأبنية والهياكل والشعارات، لكنها لا تغيّر السلوك أو تخلق مواطنًا جديدًا. والنتيجة: دولة تعاني فصامًا بين ما تعلنه وما تمارسه، ومجتمع يعيش اغترابًا بين ما هو عليه وما يُطلب منه أن يكونه.

الأدهى من ذلك، أن الغرب نفسه – الذي نستعير منه النماذج – بدأ في العقود الأخيرة يُعيد اكتشاف الشرق: يتغنّى بروحانيته، يستلهم من صوفيته، ويستلذ ببساطته الوجودية. بينما نحن، في المقابل، ننظر إلى هذا الشرق بتوجس أو ازدراء، كأننا نُريد أن نُدفن خارج ذواتنا، وأن نتحلل من كل ما يُشبهنا.

في هذا المشهد المرتبك، يغيب المشروع الذاتي. إذ لا يكفي أن نرفع شعارات النهضة، ولا أن نكتب دساتير جميلة، ولا أن نُنشئ مؤسسات حديثة الشكل. فالتحديث الحقيقي لا يتم باستنساخ الآخر، بل بامتلاك الوعي الذي يجعلنا نُعيد قراءة تراثنا بعين نقدية لا تخجل منه، ونُعيد إنتاج مؤسساتنا بروح تنبع من بيئتنا لا من ورق الترجمة.

إن السؤال الجوهري الذي لم نواجهه بعد بجدية هو: لماذا لا نُشبه أنفسنا؟

لماذا نُصر على تقليد نموذج لم يولد من صلبنا، ونبني دولة لا تشبه مجتمعنا، ونقيس نجاحنا بما يُرضي الخارج لا بما يُصالح الداخل؟ لماذا لا نمتلك شجاعة إنتاج نموذج جديد، حديث فعلاً، لكن بجذور شرقية حقيقية، تحترم ثقافة المجتمع وتستثمر فيها، بدلاً من اقتلاعها ومحاولة استبدالها؟

الجواب ليس بسيطًا، لكنه يبدأ من الاعتراف بأننا لا نعاني فقط من تأخر في التنمية أو ضعف في الإدارة، بل من ضياع في الرؤية. نحن بحاجة إلى مشروع نهضوي ينطلق من الذات، لا من غيرها؛ يشتبك مع الموروث لا ينكره، ويستفيد من الآخر دون أن يذوب فيه.

ختامًا...

الحداثة ليست في استيراد المصطلحات ولا في بناء المؤسسات الفارغة. الحداثة الحقّة تبدأ حين نكفّ عن الهرب من أنفسنا، ونعيد الاعتبار لما نحن عليه، ونُبدع انطلاقًا من جذورنا لا من ظلال غيرنا. فالدولة التي لا تنبع من تربتها، تظل دائمًا غريبة عن ناسها... وعاجزة عن الحياة.

 


مشاهدات 44
الكاتب سيف الحمداني
أضيف 2025/07/14 - 1:32 PM
آخر تحديث 2025/07/15 - 3:14 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 115 الشهر 9117 الكلي 11162729
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/7/15 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير