من وحي أدب نجيب محفوظ :هرمينوطيقا رؤوف علوان واللعبة التأويلية للنص الديني
كـريم عـبيـد عـلـوي
لَنْ يَسْتَحْضرَ هذاْ المقالُ من (محفوظ) إلا رمزية (رؤوف علوان) فهو ليس مقالاً نقدياً فيْ أدبِ نجيبِ محفوظ ونقده لاستغلال الدين والتَّدين الشَّعبيّ في عالمه السَّردي ،فالنقدُ الديني في معالجته السَّردية أمرٌ لا يخطئه القارئ إذ يطلُ بوضحٍ فيْ أَهمِ أعماله الروائيَّة ، وفيْ طليعتها ثلاثيته الشهيرة إذ تمثلُ فيها شخصيةُ (كمال) الحيرةَ والانكسارَ بتطلعاتها الصوفيَّة المثاليَّة وميلها للحب الافلاطوني الذيْ لمْ يُكتَبْ له النهاية السعيدة فعاش مرارة الألم والخيبة والخذلان، بينما تمثل شخصية (ياسين) بكل تحولاتها وتناقضاتها وجدليتها إرادة الحياة وبهجتها ، وتحضر في أبعاد كاريكاتورية ساخرة شخصية الشيخ ( متولي عبد الصمد) الذي يمثل الاتكالية والارتزاق من الآخرين لما يعتقد به الآخرون من كونه شخصية تمنح البركة بسبب دعواتها ورؤاها الصالحة في المنام ، وفي روايته (اللص والكلاب) هناك شخصية تراجيدية هي( سعيد مهران ) فبعد خروجه من السجن ينتقم من الأشخاص الذين زجوا به في السجن نتيجة سرقته بسبب عوزه المادي ، فهو في أصله ينطوي على صلاح وطيبة ولكنَّ الظروف المحدقة به وتبرير صديقه (رؤوف علوان ) هومن دفعه للسرقة و رسم له هذه النهائية المرة ، فـ (رؤوف علوان) شخصية براغماتية يتفنن في السفسطة وقلب الحقائق وإقناع الآخرين ، واستطاع أن يتسلق من بداية وضيعة ليحقق مركزاً اجتماعياً مرموقاً ويكون رئيس تحرير صحيفة مهمة ، وهو يرفض أن يأخذ بيد (سعيد مهران) ولا يساعده ولا يقف بجانبه بعد خروجه بالسجن وتنكر لصداقته القديمة له ،وفي حديثه (لمهران) حينما التقاه يحدثه (علوان)عن مشاريعه القادمة و بأنه يفكر بمشروعه المستقبلي الذي يمثل مشروع عمره الفكري في أنْ يضع تفسيراً للقرآن الكريم يضع لكل آية من آياته تأويلات محتملة وممكنة ومتعددة ومختلفة توفر لكل من يريد أن يؤول الآية القرآنية إمكانية التأويل بما يتيح له أنْ يخدمَ أغراضه النفعية من التأويل وينسجم مع أهوائه في تسويغ أعمال غير نبيلة وإضفاء طابعي شرعي عليها من خلال ليّ عُنق النص وتقويله ما لا يقول ، و تبدو هذه الفكرة فيها من المفارقة والانتقاد اللاذع لـ (وعاظ السلاطين) ، وهي تجسد حقيقة استثمار الدين واستغلاله بنحو بشع يتجاوز المنطق الدلالي للنص و يعكس ذرائعية المؤولين واحتكارهم للتأويل وكأنهم سدنة النص وهم وحدهم من يمتلك الأهلية لفهمه .
وكانت الأساطير و روائع الأعمال الفنية الأدبية كالرواية مورداً وموئلاً للخطاب الفلسفي النقدي ولقضايا علم النفس في بلورة رموز لشخصيات إنسانية تجسد منحى سلوكياً يمثل أنموذجاً لمركبات سلوكية ، و في تحليل الجوانب النفسية يجرى استحضارها بوصفها برادايمات لجس ومقاربة نماذج إنسانية واقعية ، وقد اشتهرت مجموعة من الشخصيات الرمزية التي هي عبارة عن مصطلحات كنائية لسلوكيات بشرية نحو عقدة ( أوديب) و( اكترا) و(النرجسية) نسبة إلى أسطورة ( نرسيس) اليونانية ، وكانت روائع( دوستويفسكي) كرواية ( الأخوة كارامازوف) مجساً لاستبطان قضايا النفس لدى (فرويد) الذي اشتهر عنه قوله : (بأني كل ما انتهيت من تحليله واستبطانه من قضايا سلوكية عامة قد سبقني إليه دوستويفسكي في رواياته ورسمه وبنائه لشخصياته الفنية ) ، فلِمَ لا يكون نجيب محفوظ وأعماله الأدبية مورداً لبناء نماذج سلوكية مركبة تحضر في واقعنا وتجسد تناقضاته ؟ لاسيما وأنَّ عالمه الروائي ونسيجه السردي يرتكزانِ إلى الواقعية وعمق الرؤية الفلسفية والمنحى النفسي في رسم الشخصيات و مسار تطورها . ولعل من أبرز شخصياته الروائية شخصية (أحمد عبد الجواد) في ثلاثيته الشهيرة وما تنطوي عليه من تناقض بين صرامة وجد في العلن ولهو عابث غير مسؤول في الخفاء ، ومن يفتش قارئاً في أدبه يعثر على الكثير من النماذج الرمزية ، ولعل من أبرزها أنموذج (رؤوف علوان) الذي قد يصدق على شخصيات تبريرية دينية عديدة تسوغ في فتواها وتأويلها مواقف متناقضة ، و إذ يتمكن قلم محفوظ من نقد الواقع في عصر خنق الحريات أكثر من قلم المفكر وما ذلك إلا بسبب اعتماده الإيحاء والرمز مما يجعله في مأمن من تبعات القول عكس المفكر الذي يبنى خطابه على الدلالة الصريحة والمباشرة فلا يتمكن من البوح وتسمية الأشياء بمسمياتها في عصر اضطهاد الفكر ولجم الحريات ، فرمز (علوان) يصدق على الكثيرين من مرتدي أثواب القداسة الزائفة ، وليس غريباً على حقل التأويل اعتماد رموز شخصية كنائية إذ من أشهر الأساطير المؤسسة المرتبطة بحقل التأويل أسطورة ( هرمنيوس) الذي كان نجلا لـ (زيوس) كبير الآلهة وكان يتكفل بنقل الرسائل بين الآلهة والبشر فهو يمثل المرحلة الغنوصية في التأويل ، فالتأويل للمقدس أمر لا يتاح للجميع ، و قد شكلت هذه الأسطورة جذراً يونانياً اشتقاقياً في توليد مصطلح (الهرمينوطيقا) .
وغالباً ما يشتبك التأويل بالسياسة فيجري توظيف الدين فتبرز تأويلات تتحالف مع السلطة وتهمش تأويلات أخرى ، وتتصارع التأويلات في الانتساب إلى الحقيقة الشرعية وامتلاكها من خلال القراءة في معارك تغذيها الايديولوجيا والمصلحة ، والأمثلة كثيرة حول معارك التأويل في تراثنا العربي الإسلامي وواقعنا المعاصر على حد سواء ، والحق أنَّ ما من مسألة سياسية جدلية ولدت انقساماً في المواقف وارتبطت بالتأويل الديني والاستناد إلى الفتوى الشرعية كمسألة الصراع في الشرق الأوسط وحروبه في العقود الأخيرة ، وأبرزها انقسام الفتاوى في الاصطفاف مع التحالف الدولي والوقوف مع جيوش الغرب والتحشيد للأخ العربي المسلم الشقيق متمثلة في وقوف معظم الدول العربية مع التحالف الدولي بوجه العراق في تسعينيات القرن الماضي. فهل المسألة ترتبط بطبيعة النص الديني وكونه حمالاً للأوجه الدلالية المتعددة أم الموضوع يرتبط بفتاوى وتأويلات براغماتية غير مسؤولة ؟
إنَّ هرمينوطيقا النص الديني تستند بحسب ( محمد أركون) إلى احتماليته الدلالية المتعددة بسبب ارتكاز نسيجه النص على البنية المجازية الاستعارية وإحالته إلى ما هو مفارق ومدهش من عوالم الغيب إلا أنَّ منطق النص الدينيّ يبقى متسماً بالقصد ويحتفظ بمركزيته الإبلاغية في الهداية ، فلاشك أنَّ التأويل المفرط ينخرط في مجال اللعب العابث بدعوى حرية القراءة ، فلابد للنص من مقيدات تأويلية تضبط مسار التأويل وتضع له حدوداً كما يقرر (امبرتو إيكو) ، وإذ تتعد القراءات لكن تعددها لا يشي بالتناقض أو المفارقة بل بالتقارب الدلالي والتشابه في القصد ، لكن المشكلة التي يرصدها هذه المقال تتلخص باستثمار روايات دينية غير موثوقة يجري تأويلها في مواقف كثيرة ومتغيرات سياسية عديدة بأوجه متناقضة مختلفة مع كون النص واحداً ! وربما كان الشارع بخلفيته الشعبية متسائلاً عن أحداث سياسية دراماتيكية فيلتقي بطريق المصادفة مع أهواء الحاكم ولكن قد تقف بجرأة قراءة تأويلية مسؤولة إزاء هذا الاستثمار التأويلي ، من ذلك ما يرويه المؤرخ العراقيّ ( بشار عواد معروف ) و بمرارة كبيرة في لقاء أجراه معه الإعلامي ـ حميد عبدالله ـ ضمن برنامج (شهادات خاصة) يروي أنَّ رئيس النظام العراقي إثر اجتياحه للكويت وأثناء هجوم أمريكا ونشوب الحرب كان الشارع العراقي منشغلاً بإشاعة رائجة مفادها وجود حديث ديني يشير إلى مواجهة إسلامية مع الغرب تبشر بنصر موعود في حديث ينصُّ: (( سيجتمع على حرب أمتي بنو الأصفر فيخرج لهم رجل من أمتي اسمه صادم فيصدمهم )) فلعلَّ البشارة الموعودة تنطبق على هذه الحرب واسم الرئيس ، والمفاجأة كانت تتمثل بطلب رئاسي إلى وزارة الأوقاف والشؤون الدينية آن ذاك بشأن التثبت من صحة الاسم و مدى وجود الرواية وموثوقيتها في مدونات الحديث والمضان التاريخية على الرغم من استعار الحرب ونشوبها وانقطاع وسوائل التواصل بين أجهزة الدولة بسبب أضرار الحرب إلا أنَّ الرئاسة لجأت إلى المراسلة اليدوية الورقية بشأن أمر هامشي لا قيمة له في وقت كان القتال مع التحالف الدولي يفتك بالناس ويدمر بنية البلد التحتية في حرب عبثية ولدتها حرب عبثية سابقة ، و(بشار عواد معروف ) إذ ينقل ذلك ويؤكد بأننا أجبناهم بصراحة بأنه لا أساس من الصحة لهذا الأمر ، وإزاء دهشة مقدم البرنامج من هذه الحكاية وتساؤله عن تفسيره ذلك فيجيب (عواد) أن لا تفسير سوى الاعتقاد بالخرافة . وثمة حكاية تُنسب إلى شيخ الأزهر (عبد الحليم محمود) وإليها يُعزى هجوم الرئيس المصري السادات على إسرائيل في حرب أكتوبر ومفادها أن الشيخ رأى انتصار العرب المسلمين بقيادة النبي الكريم (ص)على اليهود وانتشرت حكاية رؤياه وتم توظيفها في الماكنة الإعلامية المواكبة لحرب أكتوبر في عام 1973 وانتصار مصر في عبور خط بارليف ، وهذا الشيخ من الزهد والانقطاع إلى العلم والابتعاد عن السياسة ما يشهد به كل من عرف سيرته ، و لعلَّ ماكنة السياسة التي تحتاج إلى بروباغاندا ودعاية وتعبئة هي التي وضعت هذه الحكاية ،وربما كان حلماً حقيقياً وجرى استثماره وتضخيمه في التعبئة المعنوية. وذات مرة حكى أحد القادة الجهاديين ــ وهو يلهب حماس جمهوره ــ بأنَّ انتصار العرب والمسلمين على اسرائيل أمرٌ حتمي مستنداً في ذلك إلى ( تنبؤات نوستراداموس) الشهيرة المدونة في القرن السَّادس عشر وهو طبيبٌ فرنسي وقد استشرفَ وقائعَ كثيرةً كانتصار الثورة الفرنسية ونشوب الحرب العالمية الثانية ، وفي حديثه لجمهوره أكد أنَّ هناك ما يشير إلى انتصار المشرقيين على الغرب في كتاب( تنبؤات نوستراداموس ) ، والمفارقة أنه إذ يستشهد في هذا الكتاب ينفي قدرة مؤلفه على التكهن ، فالأمر من الغيب الذي يستأثر بمعرفته الله ، ويعزو الأمر أنه جاء إلى المشرق العربي واطلع على مرويات الملاحم والفتن التراثية ونسبها لنفسه وقام بصياغتها بطريقة شعرية يكتنفها الغموض ويعطيها إمكانية الاحتمال والتأويل ! و الجانب اليهودي هو أيضاً قد وجد في الموروث الروائي التوراتي ما يمكن تأويله وتوظيفه في حربه الأخيرة ، فقد لجأ (نتنياهو) في تسويغ حرب الإبادة في غزة إلى نصوص رؤية( إشعيا )في العهد القديم (التوراة) في بشارتها لليهود بانتصارهم على أعدائهم من (العمالقة) المستوطنين في شمال سيناء وجنوب فلسطين ، وجرى توظيف هذه البشارة لتضليل الناس وخداعهم و إلهائهم عن حماقاته المتهورة و غير المحسوبة في شنه للحرب في وقت تعرض فيه لنقد شديد من علماء اللاهوت المختصين بالتوراة بأن هذه الرؤيا لا تنطبق على الصراع الحالي في الشرق الأوسط .
وفي مستهل سورة الإسراء يسرد القرآن الكريم واقعتين لعلو بني إسرائيل ونهايتهم وهزيمتهم في المرتين بسبب تجبرهم وإفسادهم في الأرض ، ومن خلال مطالعتي المتواضعة لمصادر التفسير المعتبرة كتفسير التحرير والتنوير لابن عاشور وتفسير الميزان للطباطبائي لم أجد الاثنين يحددان من هم عباد الله الذين اختارهم لإيقاع العقاب على بني اسرائيل وهزيمتهم مع حرص المفسرينِ على استعراض الحوادث التاريخية لهزيمة اليهود وتحطيم مدينتهم المقدسة أورشليم كالسبي البابلي الأول على يد( نبوخذ نصر) والسبي البابلي الثاني وغزو الروم المتكرر على يد قيصر ، ولم أجد لديهما إشارة لقراءة تتنبأ بانتصار العرب والمسلمين في صراعهم المعاصر مع اليهود على الرغم من وجود محاولات من البعض في تأويل الفتوحات الإسلامية لبيت المقدس بأنها الكرة الأولى وهناك كرة موعودة في نهاية الزمان، ولكن كبار المفسرين يتحفظ في أن يعين واقعة تاريخية محددة بسبب إجمال النص القرآني الذي لا يسعف في التحديد الزمني ، فالهدف من القصص القرآني هو استلهام العبرة وليس استشراف المستقبل .
لقد حرصت مدونة الأحاديث النبوية الشريفة والصحاح أنْ تفرد حقلاً وباباً لأحاديث الملاحم والفتن التي تتضمن علامات القيامة والساعة وعودة المسيح وظهور الدجال مما يُسمى بأخبار الظهور وعلاماته أو علامات الساعة باختلاف الفرق الإسلامية ، وهي أحاديث مجملة مبهمة ظنية الدلالة غير قطعية السند ورواتها مجروحون بل هي بمستوى من الضعف والوهن بإجماع المحققين من كبار محدثي الفرق الاسلامية ، ومما يؤسف له أنها أصبحت مادة رائجة في قنوات فضائية ومنصات افتراضية رقمية و تثير فضول العامة والذائقة الشعبية إزاء كل منعطف سياسي يهز منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي وصراعه مع إسرائيل وقمع الأنظمة المستبدة لشعوبها وتروج أيضاً في منتديات الكترونية منتشرة بنحو ملحوظ وملفت للنظر ، وفي ذلك أكثر من دلالة تبعث على التساؤل ! ولا شك أن وراء رواجها إرادة لا تنحصر بالتكسب والاستثمار الرقمي الرخيص في حقل الدين بل ربما تدخل ضمن ماكنة الحرب الإعلامية و استراتيجية الإلهاء وتسويق الأمل الزائف وبيع الأوهام إزاء انكسارات وهزائم تاريخية مرة ومخزية ، فربما جُندت الأقلام عن علم أو على حين غرة وأفرزت نتاجاً يصب في قراءة أحداث مستقبلية تستند لمرجعية روائية ضعيفة ، فأصبحت بعض الأسماء أيقونة مختصة وتمت صناعة نجومية دينية في الاختصاص بالتأويل يتم استخدامها في أجواء التعبئة ، وأصبحت هذه اللعبة التأويلية رأس مالهم الرمزي الذي يحقق لها النجومية ويجذب الأضواء ، فأمعنت بالكذب والتدجيل وتسويق الأوهام وإهدار كل قوانين التأويل في فهم النص ؛ في وقت تقف المؤسسة الدينية الرسمية بمدوناتها المحققة موقف الحذر والتحفظ بل الإنكار والريبة لمجمل هذه الأحاديث ، وربما دفع الورع بفقيه إسلامي كبير أن يفتي بحرمة الخوض فيها وإنْ كان على سبيل الحكاية لا الاعتقاد وعدها من المفطرات التي تبطل صيام شهر رمضان وعدها مصداقاً للكذب على الله ورسوله ، والحق أنه كان على المؤسسات الرسمية أن تتخذ موقفاً يتسم بالشجاعة وإدانة مروجي ومؤولي هذه الأحاديث في ضوء المتغيرات السياسية ، ولكنها تلوذ بالصمت أو التغافل خشية هيجان الجمهور وهذا مما يؤسف له .
ويمثل التبادر اللفظي أهم القرائن الأصولية في فهم النص وتأويله ، وما يتبادر من هذه الأحاديث من إحالات لأعلام وأمكنة جغرافية تاريخية بمسميات قديمة يمثل دلالة مفارقة غير مطابقة للتأويلات الرائجة لها ، فصرفها عن دلالتها الحرفية من دلالة المنطوق إلى دلالة المفهوم بدون وجود قرينة صارفة ممكنة أو قرينة جالبة يُعد هدراً لسياقها اللفظي وتضحية بانسجامها الدلالي فيعد تأويلاً مفارقاً لقصدية النص بل يعد تحريفاً للكلم عن مواضعه. فهنا يتحول التأويل الى استعمال واستخدام وتُهدَرُ مقاصد النص وتصبح كل القراءات ممكنة ومحتملة وإنْ كانت متناقضة إلى درجة كبيرة بل صارخة ، فبحسب ( ريتشارد رورتي) سوف يفقد التأويل أخلاقه ومسؤوليته ، وفي الحقيقة أنه لا تأويل للنص بل كلٌّ يوظفه ويستعمله بحسب أهوائه وأغراضه ، فيفقد النص مركزيته ويتحول الأمر إلى مسألة إرجاء ومغايرة بحسب (دريدا) وإن لم يتبنَ المؤولون هذه المرجعية التأويلية التفكيكية إلا أنَّ الممارسة التأويلية الذرائعية تشي بانخراطهم ضمن هذه اللعبة ، و حتى التأويلات الصادرة من منصة الكترونية واحدة التي تتناقض في أزمنة متعاقبة ضمن متغيرات سياسية مختلفة تكتسب طابع التبجيل والقداسة ! فعلى الرغم من تناقضها وعدم انسجامها إلا أنها تحقق رواجاً لدى جمهورها ومتابعيها ومريديها لأنها تتغذى من مستنقع الجهل الآسن الذي يؤمن بالخرافة ويصدقها ويقع فريسة سهلة للدجل والأوهام .إنَّ توظيف هذه الاحاديث وتأويلها بدأ في بواكير الدولة العباسية في وضع الأحاديث وصناعتها لتوظيفها في صراعها الايديولوجي والسياسي مع خصومها العقائديين أو السياسيين من داخل البيت العباسي نفسه في الصراع مع الخراسانيين القادمين مع المأمون براياتهم السود في حرب أهلية أحالت عاصمة الخلافة بغداد إلى أتون مشتعلة من الفتن المضرجة بالدماء، فكانت تلك الأحاديث تمثل الشرعية( للفتنة الأهلية المقدسة ) ، وبعد حين جرى استعمال هذه الأحاديث بعد انطلائها على العامة وتوثيقها في المدونات الضعيفة ، ثم انتقل اشتغال التأويل على هذه الأحاديث من الصراع الأهلي إلى الصراع المذهبي والطائفي ثم انتقل تأويلها بعد حين نحو صراع السلطان الظالم مع رعيته وصراع الشعوب المقهورة المتطلعة لنظام اجتماعي عادل ثم حط هذا التأويل رحاله وركابه أخيراً في الصراع في الشرق الأوسط .و إلى جنب وظيفتها في التسلية تمثل هذه الأحاديث لدى العامة منفذاً لتصريف القلق والتوجس من المستقبل وتصب في إيمانهم بالقدرية وحتمية التاريخ واستلاب الإرادة الانسانية إزاء القدر التاريخي مما يعد حيلة دفاعية نفسية تسوغ كسلهم وعجزهم وتضمد جراحهم النرجسية إزاء انكسار الذات وانسحاقها التاريخي وهزيمتها المرة المتطلعة لنصر موعود في النهاية ضمنته تلك الأحاديث الضعيفة التي تنتسب زيفاً إلى القداسة .
إن جغرافية هذه الأخبار والوقائع هي جغرافية تاريخية قديمة بأعلامها وأحداثها وحتى في متخيلها للعنف تختلف عن جغرافية الواقع المعاصر ،و مستوى العنف الآن هو من الفظاعة والبشاعة و الدمار بنحو يفوق التصديق و لا ينطبق على عنف ما تتحدث عنه تلك الأخبار من كوارث وفتن في آخر الزمان إذ يبدو في المقارنة بين الاثنين أن عنف الأخبار أهون بدرجة كبيرة من عنف واقعنا المعاصر وفتنه وكوارثه ، لكن ما زال الاصرار على استحضار تلك الأحاديث كأنها رؤية تستشرف الواقع وتعبئ الناس بمعركة مقدسة كأنها قدر مرسوم ومحتم على الانسان أن يخوضه وأنَّ الهزيمة هي قدر مثلما أنَّ النصر الموعود في النهاية هو قدر إلهي أيضاً . ولكن ماذا بشأن نهاية رؤوف علوان ونضال سعيد مهران في رواية (اللص والكلاب) ؟ لم تنجح محاولة الاغتيال(لعلوان) فبعد أن تسلل لبيته الكبير توهم بأن خادمه هو نفسه ، فأطلق عليه الرصاص فأرداه قتيلاً بدلاً من (علوان) ، فكانَ هذا الحادثُ لعنةً جعلتْ من سعيد مهران مُطارداً ويبحث دون جدوى عن ملاذٍ آمن يطمئنُ في كنفه ويفسرُ له معنى وجوده ، ولا شك أن في ذلك بعداً إيحائياً رمزياً يدل على سطوة وهيمنة التأويل النفعي العابث الذي يتغذى من مستنقع الجهل ومخاوف الناس على الرغم من نضال الفكر المرير للتحرر منه ولكن دون جدوى لأنَّ الفكرَ الحرَ لا يستطيعُ أَنْ يتحالفَ مع السطلةِ أي سلطةٍ كانتْ.