الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
شبكات الفواعل: النقد الأدبي وما بعد الإنسانية


شبكات الفواعل: النقد الأدبي وما بعد الإنسانية

عادل الثامري

 

شهد النقد الأدبي تحولًا ابستمولوجيًا نوعيًا، مع صعود ما بعد الإنسانية Posthumanism بوصفها نموذجا معرفيا جديدا، أعاد النظر في مسلّمات التأويل المتمركزة حول الإنسان.  وفي هذا السياق، لم يعد الإنسان مركزًا مطلقًا لإنتاج المعنى، بل أصبح جزءا من شبكة معقدة من الفواعل المتشابكة – بشرية وحيوانية وتكنولوجية وبيئية. تتحدى هذه الحركة – التي تتجاوز حدود ما بعد البنيوية – المفهوم الإنساني الكلاسيكي للذات وتفتح المجال أمام إمكانيات تأويلية تقوّض أنساق الهيمنة المتمركزة على الذات البشرية التي هيمنت على التقاليد النقدية.

برزت ما بعد الإنسانية باعتبارها رد فعل نقدي على رؤية عصر التنوير المتمركزة حول الإنسان، والتي فضلت الاستثنائية البشرية وحافظت على حدود أنطولوجية صارمة بين الذوات البشرية والأشياء غير البشرية. هذه الحركة تمتد إلى ما وراء الانتقادات المضادة للإنسانية التي صاغها مفكرون بنيويون وما بعد بنيويين مثل ألتوسير وفوكو ولاكان، وتعترف في الوقت نفسه باسهاماتهم في تفكيك الذات الإنسانية المستقلة. وهنا، يُعاد تعريف العاملية (Agency) والتجسيد (Embodiment) والعلائقية (Relationality) من منظور غير ثنائي.

تنبثق النظرية ما بعد الإنسانية من تداخل مجموعة من الحقول المعرفية مثل النسوية التكنولوجية (Feminist Technoscience)، والمادية الجديدة، والأنطولوجيا المتمركزة حول الأشياء (Object-Oriented Ontology)، والفلسفة البيئية، ما يمنحها طابعًا تعدديًا من حيث المرجعيات والمفاهيم. ومن بين النصوص التأسيسية في هذا السياق، يبرز بيان السايبورغ (دونا هاراواي، 1985) بوصفه إعادة تصور راديكالية لفكرة الذات الهجينة، القابلة للتجاوز والتداخل بين الإنساني والتقني. كما يشكل كتاب " كيف أصبحنا ما بعد انسانيين" (How We Became Posthuman) لكاثرين هايلز (1999) محطة محورية في إعادة التفكير بمفهوم الذات من منظور سيبراني، حيث يتم تفكيك الحدود التقليدية بين الجسد والمعلومة، والعقل والآلة.

يعتمد النقد الأدبي ما بعد الإنساني على مقاربات منهجية تركز بشكل أساسي على العلائقية والمادية والتجسيد، متجاوزًا بذلك الفئات التحليلية الإنسانية التقليدية. وترتكز هذه المقاربة على مفاهيم نوعية تعيد ترتيب أولويات القراءة والتحليل، من بينها مفهوم "التفاعلات الداخلية" لكارين باراد (Karen Barad)، الذي يشير إلى العمليات الدينامية للتكوين المتبادل التي تتجاوز التفاعلات البسيطة بين كيانات منفصلة. كما يستفيد من تصور دونا هاراواي لثقافات الطبيعة(naturecultures)، التي تتحدى الثنائية التقليدية بين الطبيعة والثقافة، والتي هيمنت لفترات طويلة على الفكر الغربي، ما يفتح آفاقًا لفهم العلاقة المركبة  بين الإنسان والبيئة.

في إطار النظرية ما بعد الإنسانية، تُفهم النصوص الأدبية بوصفها تجمعات (Assemblages) تتكون من أنساق فاعلة ومتنوعة، وتشمتل على عناصر بشرية وغير بشرية على حد سواء، مثل البيئة، والأشياء، والتقنيات. هذه التجمعات ليست مجرد مجموع أجزاء منفصلة، بل هي شبكات معقدة من التفاعلات التي تسهم بشكل مشترك في إنتاج المعنى داخل النص. تعتمد هذه القراءة على إرث الفيلسوف ميرلو-بونتي في الظاهراتية المجسدة، التي تؤكد على أن الإدراك والتجربة الإنسانية متجسدان ومتشابكان مع العالم المادي المحيط، ولا يمكن فصلهما عن التجربة الحسية والجسدية. ويتلاقى هذا الإرث مع رؤى المادية الجديدة التي تتبنى رؤية للمادة بوصفها كياناً فاعلاً وحياً بطبيعته، وليس جمادا سلبيا أو خامدا، بل قوة دينامية تؤثر في السياقات الاجتماعية والثقافية وتتأثر بها. ومن ثم، يتحول النص إلى فضاء حي تتداخل فيه الفواعل البشرية وغير البشرية، اذ لا يعود المعنى نتاجًا حصريًا للإنسان أو لعناصر لغوية بحتة، بل نتيجة لتشابكات معقدة بين كيانات متعددة تُشكل معًا نسيجًا ديناميا يُعيد التفكير في حدود الذات والآخر والطبيعة والثقافة.

يقدم إدماج الأنطولوجيا الموجهة نحو الأشياء، التي طورها غراهام هارمان وتيموثي مورتون، أدوات تحليلية مهمة تعزز فهم الواقع المستقل للأشياء غير البشرية داخل النصوص الأدبية. هذا الإطار النظري يُمكن النقاد من تجاوز القراءة التقليدية التي تقتصر على اعتبار الأشياء مجرد رموز أو استعارات تعكس التجربة الإنسانية، ليُسلط الضوء بدلاً من ذلك على الفاعلية الذاتية لتلك الأشياء—سواء كانت ظواهر طبيعية أو قطعًا تكنولوجية أو كيانات مادية أخرى—وكيف تمتلك وجودًا وفاعلية خاصة بها تتفاعل وتتداخل مع الكائنات البشرية والعناصر الأخرى ضمن النص. وبهذا، تُعيد هذه المقاربة تشكيل فهمنا للعلاقات المعقدة بين الإنسان والعالم غير الإنساني، ويوسع دائرة التحليل النقدي لتشمل الشبكات المتشابكة من الفواعل التي تشكل نسيج المعنى الأدبي.

تُظهر سرديات الخيال العلمي المعاصر قدرة مميزة على استيعاب وتحليل الأفكار ما بعد الإنسانية، حيث ينكب الباحثون على دراسة أعمال مثل رواية "هل تحلم الأندرويد بالخراف الكهربائية؟" لفيليب ك. ديك (Philip K. Dick) و"نيورومانسير" لويليام غيبسون (William Gibson)، لاكتشاف الطرق التي تهتز فيها الحدود التقليدية بين الإنسان والآلة. تكشف هذه الدراسات كيف يعمل القص التأملي ضمن هذا النوع الأدبي بوصفه مختبرًا فكريًا حيًا للفكر ما بعد الإنساني، إذ يختبر أشكالًا هجينة من الوجود والعاملية تتحدى الافتراضات التقليدية المتمركزة حول الإنسان، سواء فيما يخص الوعي أو الهوية أو الجسد. ومن خلال ذلك، يتيح الخيال العلمي إمكانيات جديدة لإعادة التفكير في ماهية الإنسان وعلاقته بالتكنولوجيا والعالم المحيط به.

لقد أثمر تطبيق النقد ما بعد الإنساني على القص المعاصر عن رؤى متميزة ومقنعة، تجسدت بوضوح في رواية " القصة العليا" (The Overstory, 2018) لريتشارد باورز، التي اعتمدت بنية سردية متعددة الأصوات تمنح حضورًا فاعلًا متوازنًا لكل من الكائنات البشرية والأشجار، مساهمة بذلك في توسيع مفهوم الفاعلية داخل السرد. وعلى جانب آخر، تستكشف رواية "محطة شارع بيرديدو" (Perdido Street Station, 2000) لتشاينا مييفيل الأبعاد السياسية المعقدة التي تنشأ من التشابكات الهجينة بين الإنسان وغير الإنسان ضمن فضاء حضري متخيل، مما يفتح آفاقًا جديدة للتأمل في طبيعة التفاعل بين الكائنات الحية والبيئات المحيطة بها.

وقد اكتسب البعد البيئي في توجهات ما بعد الإنسانية أهمية متزايدة في ظل حقبة الأنثروبوسين (Anthropocene)، وهو المصطلح الذي اقترحه بول كروتزن (Paul Crutzen) لوصف الحقبة الجيولوجية الراهنة المتأثرة بالنشاط البشري. وقد أسهم هذا المفهوم في زعزعة الأسس الأنثروبومورفية التي طالما وجهت الفكر البيئي، أي اسس النزعة التي تُسند الصفات البشرية إلى كائنات غير بشرية كالحيوانات أو النباتات أو الظواهر الطبيعية، مما يُكرّس مركزية الإنسان ويُعيق تصور علاقات بيئية أكثر تكافؤًا. ومن هذا المنطلق، تدعو ما بعد الإنسانية إلى إعادة تصور العلاقة بين الإنسان والكوكب بوصفها علاقة تقوم على التداخل والتكافل، لا على الهيمنة والاستغلال. ويسهم النقد الأدبي ما بعد الإنساني في دراسات الأنثروبوسين من خلال تحليل الكيفيات التي ترصد بها الأعمال الأدبية مظاهر الأزمة البيئية وتستجيب لها، وفي الوقت نفسه تطرح تساؤلات جذرية حول النماذج الإنسانية المتمركزة التي حكمت تاريخياً علاقة الإنسان بالبيئة.

أدى ترسيخ ما بعد الإنسانية كنموذج نقدي إلى إثارة نقاش أكاديمي واسع، حيث يعترض النقاد على تماسكها النظري وآثارها السياسية المحتملة. ويبرز تحديد ستيفان هربريشتر (Stefan Herbrechter) لأربع نقاط خلاف رئيسية تعقيد الخطاب ما بعد الإنساني، وهي: المخاوف من النزعة الحتمية التكنولوجية، والتمييز بين ما بعد الإنسانية كخطاب نقدي وما بعد الإنسان ككيان مفترض، والأسئلة المتعلقة بحقوق الحيوان والسياسات الحيوية، إلى جانب الجدل حول الجذور الأوروبية لهذا الفكر ومدى قابليته للتطبيق عالميًا.

وقد أثار نقد الحتمية التكنولوجية دعواتٍ إلى تبني تصور لـ “ما بعد إنسانية بدون تكنولوجيا"، يركز على الأبعاد المتجسدة والبيئية والعلائقية للوجود ما بعد الإنساني، بعيدًا عن اختزال هذا الوجود في التطورات التقنية وحدها. ويعكس هذا التوجه مخاوف متزايدة من تحول الخطاب ما بعد الإنساني إلى سلعة تسوّقها حركات التحسين الإنساني (Transhumanism)، وهو تيار فكري وفلسفي يدعو إلى استخدام التكنولوجيا المتقدمة—مثل الذكاء الاصطناعي والهندسة الجينية والواجهات الدماغية الحاسوبية—لتحسين القدرات الجسدية والعقلية للبشر وتجاوز حدودهم البيولوجية. وعلى الرغم من تقديمه كامتداد للتقدم العلمي، يُنتقَد التحسين الإنساني لكونه يعيد إنتاج مركزية الإنسان بشكل أكثر تطرفًا، حيث يُعاد تعريف "الإنسان الكامل" وفق معايير الأداء والتفوق والهيمنة، ما يقصي الكائنات الأخرى ويتجاهل الأبعاد البيئية والعلاقية التي تُعد جوهرية في الطروحات النقدية لما بعد الإنسانية.

يستلزم إدماج وجهات النظر ما بعد الإنسانية في التعليم الأدبي إحداث تغييرات جذرية على صعيد المقاربة التربوية، وتصميم المناهج، والبنى المؤسسية التي توجه العملية التعليمية. ففي هذا السياق، تدعو كل  من ستايسي ألايمو (Stacy Alaimo) وسوزان هيكمان (Susan Hekman) إلى تعليم ما بعد إنساني يُنمّي أشكالًا من التفكير العلائقي تتجاوز الإطارات المتمركزة حول الإنسان، وتفتح المجال لفهم الذات في تفاعلها المستمر مع الكائنات والبيئات والأنظمة غير البشرية. كما يجادل سنازا Nathan Snazaوزملاؤه لصالح ممارسات تعليمية تعزز الاعتراف بالتشابك العميق بين الإنسان والعوالم الأخرى، مؤكّدين على أهمية تطوير حسّ معرفي وأخلاقي يستوعب تعددية الكيانات والصلات العابرة للأنواع، بما يتجاوز النظرة الفردانية والتمييزية التي طبعت كثيرًا من الخطابات التعليمية التقليدية.

يمثل النقد الأدبي ما بعد الإنساني تحولًا نوعيًا يعيد مساءلة الأسس المتمركزة حول الإنسان في تأويل النصوص، ويفتح آفاقًا جديدة لفهم تداخل الفواعل البشرية وغير البشرية في الأدب. وعبر أطره النظرية ومناهجه المبتكرة، يقدّم هذا الاتجاه أدوات تحليلية لمواجهة التحديات البيئية والتكنولوجية والسياسية المعاصرة. ورغم الجدل حول تماسكه وآثاره السياسية، أصبح أثره التحويلي في الدراسات الأدبية واضحًا في ظل الأزمات البيئية وتسارع التكنولوجيا وازدياد الاعتراف بفواعل غير بشرية. إن ما بعد الإنسانية لا تعيد تخيّل علاقة الإنسان بالعالم فحسب، بل تشكّل مشروعًا معرفيًا متجددًا يعمّق فهم المعنى الأدبي في القرن الحادي والعشرين.

 


مشاهدات 189
الكاتب عادل الثامري
أضيف 2025/07/06 - 3:10 PM
آخر تحديث 2025/07/07 - 6:18 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 540 الشهر 3979 الكلي 11157591
الوقت الآن
الإثنين 2025/7/7 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير