الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
مأساة الفهم المتأخر

بواسطة azzaman

مأساة الفهم المتأخر

ثامر محمود مراد

 

لا تزال شعوب كثيرة، ومنها شعوب منطقتنا، تعاني من أزمة مزمنة في قراءة التاريخ وفهم سياقاته، وهي أزمة لا تتجلى فقط في جهل الوقائع أو تجاهل العبر، بل في تكرار الأخطاء ذاتها، وكأن الزمن لا يُعلّم ولا يُهذّب. ولعلّ من أعقد مظاهر هذه الأزمة هو العجز عن تحليل ما يجري في الخفاء، خلف الكواليس السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث تُطبخ القرارات الكبرى التي ترسم مصير الأوطان دون أن يُستشار أهلها، ولا حتى يُمنحوا فرصة الوعي بما يحدث لهم أو باسمهم.إنَّ الغياب شبه الكامل للرؤية النقدية العميقة جعل معظم الأحلام الوطنية مفرغة من مضمونها، بل تحوَّلت إلى سرابٍ يخدعنا كلما اقتربنا منه. والسبب لا يعود فقط إلى الظروف القهرية، بل إلى سوء الفهم الذي حوّل الأماني إلى أعباء، والمبادرات إلى نكسات، حتى بدا كأننا نطلب النجاة من المصائب بالارتماء في أحضان كوارث أعظم منها.

الحاضر، في ظل هذا الوعي المبتور، لا يمكن فهمه بمعزل عن الأمس، ولكن المأساة أن محاولاتنا لفهم ما مضى لا تتجاوز كثيراً العاطفة والانفعال، دون منهجية أو موضوعية. نحن لا نقرأ التاريخ، بل نعيد اجتراره وفق أهواء الراهن، مما يجعلنا نكرر السقوط في الفخاخ ذاتها، ونصوغ السيناريوهات نفسها التي جُرِّبت مراراً ولم تنتج سوى الألم والخيبة.والأخطر من ذلك، أن السباق الحالي بين قوى الخارج، وأحياناً بين قوى الداخل نفسها، لم يعد سباقاً من أجل البناء أو الاستقرار، بل بات صراعاً عبثياً لتحديد أيٍّ من أعدائنا أقلّ قسوة في تدميرنا. لم نعد نبحث عن الحياة، بل عن طريقة موت “أقل فظاعة”! هذا التحول في الإدراك الجمعي من الرغبة في العيش الكريم إلى القبول بالموت “المناسب” هو كارثة في ذاته، ويعكس مدى الانهيار في منظومة القيم والطموحات.

إنّ أدوات القتل اليوم لم تعد مجرد بندقية أو قنبلة، بل باتت تأخذ أشكالاً أكثر تعقيداً: ألغام فكرية تُزرع في عقول الأجيال، أسلحة إعلامية تخترق الوعي، قرارات اقتصادية تخنق الفقراء، وتحالفات سياسية تُبرم على حساب دماء الناس. وفي خضمّ كل هذا، يغيب المشروع الوطني الجامع، وتغيب القراءة الواعية التي لا تُهيمن عليها الإيديولوجيات أو الأجندات الضيقة.ما نحتاجه فعلاً هو قراءة شجاعة ومتحررة من القوالب الجاهزة، قراءة تعترف بالحقائق كما هي، لا كما نحب أن تكون. قراءة تستند إلى العقل والتحليل لا إلى الولاء الأعمى والانفعال. إن إعادة قراءة الماضي لا تعني التباكي عليه، بل تعني أن نُعيد تشكيل وعينا به، كي نعرف كيف نتعامل مع الحاضر ونصوغ مستقبلاً يليق بأحلامنا التي سُرقت منا تحت مسميات براقة.

في النهاية، لا خلاص من هذا المأزق دون أن نمتلك الشجاعة للقول إننا فشلنا، ولكن هذا الفشل ليس نهاية الطريق. إن الاعتراف بالخطأ هو أول الطريق نحو التصحيح. علينا أن نكفّ عن تسويغ العجز ونبدأ بتعليم أنفسنا كيف نفكك ما حدث، دون تبرير، ودون تسطيح، ودون أن نُعيد بناء الأوهام. وحدها القراءة النقدية الحرة وغير المؤدلجة قادرة على أن تُخرجنا من هذا النفق المعتم، وتمنحنا بارقة أمل لزمنٍ أقل قسوة.

 

 

 


مشاهدات 26
الكاتب ثامر محمود مراد
أضيف 2025/07/05 - 1:42 AM
آخر تحديث 2025/07/05 - 4:06 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 161 الشهر 2424 الكلي 11156036
الوقت الآن
السبت 2025/7/5 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير