حين ضاعت البوصلة

نوري جاسم 

حين ضاعت البوصلة، لم تكن المشكلة في الرياح ولا في الطريق، بل في القلب الذي نسي وجهته، وفي الروح التي ارتبكت بين الأصوات المتداخلة، فغاب النور من الداخل، وازداد العمى في الخارج، وهذا هو حال كثير من النفوس حين تُغوى ببريق اللحظة وتنسى سرّ الرحلة، وفي عالمٍ مزدحمٍ بالشعارات والضوضاء، تتوه الأرواح التي لم تعرف طعم السكينة، وتضيع الخطى التي لم تتذوق هدوء الذكر، ويصبح كل شيء قابلاً للشك، حتى البديهيات، ان التصوف الكسنزاني ليس طقسًا ولا عنوانًا ولا زياً، هو البوصلة حين تختلط الاتجاهات، هو نور المحبة حين يخبو وهج العلاقات، هو يد تمتد لتربّت على قلبك دون أن تسألك من أنت، ومن أين أتيت، وماذا فعلت. التصوف الكسنزاني ليس وعدًا بالراحة، بل وعدٌ بالحقيقة، طريقٌ شاق لكنه يوصلك إلى السلام الداخلي حيث الأمان، لا يفرض عليك، بل يحبك حتى تقتنع، لا يخاصمك، بل يحتضنك حتى تذوب قسوتك، نعم، ضاعت البوصلة عند كثيرين لأنهم ربطوها بالرسوم لا بالمعنى، بالأسماء لا بالأسرار، بالظاهر لا بالباطن، بالسيطرة لا بالخدمة، فغاب عنهم أن الطريقة الكسنزانية ليست طريقًا للتميّز الاجتماعي، بل لتميّز النفس في الخفاء، لا تنتظر التصفيق من أحد، بل تصغي لنبض قلبك، تدربك على الصبر، تعلّمك أن تخسر لتربح، أن تعطي لتأحذ، أن تصمت لتفهم، أن تسير ولو وحدك، لأنك مع الله، ان ضياع البوصلة ليس نهاية الطريق، بل دعوة للبحث من جديد، وها هو الأمل يلمع في أعين الصادقين، أولئك الذين لم ينكسروا، ولم يستسلموا، بل أدركوا أن التصوف والعرفان الكسنزاني ليس للهرب من الحياة، بل لمواجهتها بقلبٍ أقوى، بنورٍ أصفى، بحبٍ أوسع، والذين اختاروا التصوف الكسنزاني لم يختاروه ليرتفعوا فوق الناس، بل ليكونوا أقرب إليهم، أكثر رحمة، أكثر فهمًا، أكثر حضورًا في الألم، وفي الفرح، وفي كلّ ما يجعلنا بشرًا، وحين ضاعت البوصلة، وجدنا أن الحقيقة لم تغب، بل نحن من أشحنا بوجهنا عنها، أما الآن، فالطريق لا يزال هناك، ينتظر من ينهض، من يحب، من يصدق. التصوف الكسنزاني لا يزال ينادي: تعال، مهما تأخرت، ستصل، فالمحبة لا تغلق أبوابها، والنور لا يطفئه غياب العابرين، وصلى الله على سيدنا محمد الوصف والوحي والرسالة والحكمة وعلى آله وصحبه وسلم تسليما  .