إنتهاء مرحلة الظل الأممي
منتصر صباح الحسناوي
حين أُنشأت بعثةُ الأمم المتحدة في العراق عام 2003 ، كانت البلاد خارجةً من نفقٍ طويلٍ من الغزو والانهيار المؤسسي، وكانت الحاجةُ واضحةً إلى دعمٍ دوليٍ يُسهم في رسم ملامح العملية السياسية الوليدة، ويُقدّم غطاءً أُممياً لمرحلةٍ انتقاليةٍ مجهولة ومثقلةٍ بالتحديات.
البعثةُ الأُممية تأسست بطلبٍ من العراق و بالاستناد إلى قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1500 في 14 آب/أغسطس 2003، ( حفظتهُ لأنه يومَ مولدي مع فارق السنين بالتأكيد)
والتي أُطلقَ عليها اسمُ United Nations Assistance Mission for Iraq “ واختصاراً UNAMI
وهي بعثة سياسية توسّعَ دورُها بشكلٍ كبيرٍ في عام 2007 بموجب القرار 1770.
حوار سياسي
ويتمثل تفويض «يونامي» بمنح الأولوية لتقديم المشورة والدعم والمساعدة إلى حكومة وشعب العراق بشأن تعزيز الحوار السياسي الشامل والمصالحة الوطنية والمجتمعية، والتي تحوّلت إلى جزءٍ من المشهد العراقي، حاضرةً في التقارير والحوارات وغالباً في الانتقادات أيضاً.
على مدار أكثر من عقدين، تقلّبَ دورُ البعثة بين التأثير والمراقبة والمشورة والتدخل، وبين الشراكة والتحفّظ.
فقد عملت في ظروفٍ غير مستقرة شهدت صراعات طائفية وانهيارات أمنية وتغوّل تنظيمات إرهابية واحتجاجات جماهيرية وعمليات انتخابية متكررة.
وكان من الطبيعي أن تنعكس تلك الأحداث على طبيعة أدائها، فتظهر أحياناً فاعلة وأحياناً عاجزة وأحياناً أخرى موضعَ شكٍ واتهام.
ما لا يمكن إنكاره أن وجودَ بعثةٍ أممية بهذا الحجم والطول الزمني، إنما يُعدُّ بحد ذاته مؤشراً على وجود خللٍ بنيوي في إدارة الدولة السياسية، فالدول المستقرة ذات السيادة الفاعلة لا تحتضنُ بعثاتٍ دائمة، وإنما تنسّق مع العالم من موقع الشراكة لا الوصاية، ومهما حاول البعض تجميل الصورة فإن البعثة وُجدت لأن النظام السياسي العراقي لم يكن قادراً في تلك السنوات، على إدارة ملفاته الداخلية والخارجية بكفاءةٍ تامة.
لقد قُدّمت “يونامي” منذ البداية بوصفها أداة دعم تقني وسياسي، لكنها، في كثيرٍ من الأحيان، تصرّفت بما تجاوز تلك الصفة، فقد بدا كأنها تمارس دوراً توجيهياً في بعض اللحظات المفصلية، فتصدرُ بياناتٍ تحملُ نبرةً تقريريةً تتجاوز وظيفة المراقب، وتقدّمُ توصياتٍ أقرب إلى الإملاء منها إلى النصح.
كما أن تقاريرها المتتالية عن الوضع السياسي وحقوق الإنسان وعلى الرغم من أهميتها التوثيقية، لم تخلُ من الميل نحو التعميم أو التركيز على جانبٍ دون آخر، ما جعل البعض يرى فيها فهماً سطحياً للواقع العراقي أو حتى انحيازاً ضمنياً لرؤية دولية غير منسجمة مع المزاج الوطني.
ومع كل ذلك، لا يمكن القفز على محطاتٍ إيجابية قامت بها البعثة ولاسيما في مراقبة الانتخابات وتقديم الدعم اللوجستي للنازحين وتنسيق بعض جهود الإغاثة وفي التمهيد لحوارات وطنية كانت الدولة عاجزة عن جمع أطرافها في أوقاتٍ حرجة.
تدخلات خارجية
ما تغيّر اليوم، هو استقرار العراق واعتدال خطابه السياسي ومعرفة طرقه المؤدية الى مصالح العراق بعيداً عن التدخلات الخارجية وهو أحد أهم أسباب “الاستغناء عن يونامي” هذا التحوّل لم يأتِ من فراغ وإنما من قراءةٍ حكوميةٍ جديدة للمرحلة ، ومن رؤيةٍ ترى أن العراق بات مؤهلاً لإدارة شؤونه بعيداً عن الدور الأممي الدائم.
في المقابل، تغيّرت لغةُ البعثة أيضاً، فبعد أن كانت تغلبُ على تقاريرها النبرةُ التحذيرية أو التشاؤمية، جاء الممثل الأممي في آخر إحاطةٍ له أمام مجلس الأمن في 10 حزيران 2025 بلغةٍ ملؤها الإشادة والثقة، مشيراً إلى تعافي الدولة، واستقرار الأوضاع، واستعداد العراق لتسلّمِ زمام الأمور.هذا التبادل في اللغة انعكاسٌ لبنيةٍ سياسيةٍ بدأت تستعيد ثقتها بنفسها وتطالب بحقها في السيادة الكاملة . فالعراق ممثلٌ بحكومةِ السيد السوداني الذي جنّبَ العراق الصراعات الإقليمية من حوله دون الحياد في مبدأ الجوار والمبادرة السياسية والسعى إلى التعاون الدولي، في الوقت الذي يرفض التدخل في القرار العراقي من خارجه، ويطمح إلى أن تكون الشراكات التي يعقدها قائمةً على الندّية والاحترام، بعيداً عن الوصاية والمراقبة.
إنّ اقتراب بعثة الأمم المتحدة من ختام دورها في العراق يُعدّ، في جانب منه، إشارة إلى نضوج التجربة العراقية ونجاح يُحسب للحكومة في تحسّن مناخها السياسي، وقــــــــــدرتها على تجاوز مرحلة ما بعد الاحتلال وبناء المؤسسات، وهو إعلانٌ صامت عن أنَّ صفحةً طويلة من الدعم الخارجي شارفت على الإغلاق، وأن العراق باتَ يملكُ مفاتيح مساراته، بقدرٍ أعلى من السيادة والمسؤولية .