ِتحقيق الردع العام.. تسجيل جَلسات المُحاكمات ونَشرها في وسائل الإعلام
عماد يوسف خورشيد
الثابت في فلسفة القانون الجنائي ان هدف تشريع القاعدة القانونية الجنائية تكمن في حماية المصالح الاجتماعية في المجتمع وصولًا الى إستقرار الحياة، ومن هذه المصالح: حِماية حق الامن، وحِماية حق الاموال، وحماية حق الحياة، وحماية حق المحافظة على الثقة العامة في المستندات الرسمية، وحماية القيم الانسانية... وبالتالي فان ردة الفعل الاجتماعي إزاء منتهكها سيأتي بالضرورة انعكاسًا لتلك الاهمية، فكلما ارتفعت القيمة الاجتماعية التي تحميها القاعدة ارتفعت جسامة الخروج عليها واتخذ الجزاء القانوني- العقوبة- على اثر ذلك مظهرًا أشد قسوة.
فقهاء القانون
وبِناءً على ذلك، أَبَانَت التَعريفات التي وضعها أغلب فقهاء القانون الجنائي، بان العُقوبة هي» إيلام قسري مقصود، يحمل معنى اللوم الاخلاقي والاستهجان الاجتماعي، يستهدف أغراضا أخلاقية ونفعية، محددة سلفًا، بناءً على قانون، تنزله السلطة العامة في مواجهة الجميع، بحكم قضائي، على من تثبت مسئوليته عن الجريمة والقدر الذي يتناسب مع هذه الاخيرة». وتهدف العُقوبة الى تحقيق الردع الخاص والردع العام. فالردع العام يقصد به «إنذار الناس كافة- عن طريق التهديد بالعقاب- بسوء عاقبة الاجرام كي ينفرهم منه. وتقوم فكرة الردع العام على مواجهة الدوافع الاجرامية باخرى مضادة للأجرام كي تتوازن معها او ترجح عليها فلا تتولد الجريمة.
ولا مراء ان ظهور التكنلوجيا وتقنية المعلومات وتطورها الهائل ودخولها في تنظيم أغلب مفاصل الحياة، بات يُلزم الانسان، ومؤسسات الدولة بضرورة مواكبة هذا التطور بما يخدمه بشكل عام؛ ولمواكبة ما تقدم ومكافحة الجريمة في المجتمع بشكل عام واستخدام التكنلوجيا لتحقيق هدف العقوبة بشكل خاص؛ ضرورة وضع وسيلة أُخرى لعلنية بعض إجراءات جلسات المحاكمة، وذلك من خلال تسجيل – فيديو- لإجراءات محاكمة بعض الجرائم، وإعلانها من خلال مواقع التواصل الاجتماعي والتي ظهرت أغلبها حديثًا؛ لان بقاء علنية الجلسات محصورة في قاعات المحاكم بات لا يسد الفراغ الحاصل في مواجهة الجريمة، وخاصة بعد التطور الكبير الحاصل في مجال الاعلام. وإضافة الى ذلك، التراجع النسبي في الضبط الاجتماعي، كدور الاسرة، والتماسك الاجتماعي، والثوابت الاصولية بين بعض الافراد في المجتمع، ومن صور هذا التراجع: ظهور بما يعرف «بعرض المحتويات الهابطة» والتي يواجهها القانون والقضاء العراقي حاليًا بشكل حازم.
ومن أجل وضع اللبنة الاولى بالشكل الصحيح في بيان مَدى جدوى ومشروعية تسجيل بعض اجراءات المحاكمات وإعلانها للناس بالصوت والصورة، لابد من بيان موقف التشريعات المقارنة في هذا الموضوع الهام، لمعرفة تجربة الانسان في المجتمعات الاخرى، ويفرض المقارنة العلمية الصحيحة والمنطق السليم، ان نستشهد بتشريع من النظام الانجلوساكسوني، وباخر من النظام اللاتيني، وعلى النحو الاتي:
بداية نأخذ نموذج من تشريع الولايات المتحدة الامريكية باعتباره من النظام الانجلوساكسوني وبيان موقفها من تصوير اجراءات المحاكمات. لا مراء انه في عام 1946 مُنع التصوير والتغطية الاعلامية بشكل صريح بموجب القانون الفيدرالي للإجراءات الجنائية رقم 53. واستمر ذلك حتى عام 1990، إذ تم عقد المؤتمر القضائي الامريكي» Judicial Conference « وتم طرح الموضوع امامها، وبعد المناقشة الدقيقة لها؛ شكل رئيس المحكمة العليا «القاضي رينكويست» لُجنة مُختصة في وضع كاميرات ووسائل الاعلام وعلى ان يكون بشكل تجريبي في محاكم محددة. وبذلك بدأ التصوير بشكل مقيد وتجريبي لمدة ثلاث سنوات. وكانت نتيجة الفترة التجريبية ان اللجنة اوصت بتوسيع تسجيل اجراءات المرافعات، مع عدم اظهار الشهود في الدعاوى. ولكن المؤتمر القضائي رفض تلك التوصية. وبعد ذلك في عام 1996 أعطى المؤتمر القضائي السلطة التقديرية لتصوير بعض إجراءات المحاكمة في محاكم الاستئناف في بعض الولايات الامريكية، مع مراعاة القيود الواردة في تسجيل اجراءات المحاكمة.
وفي عام 2010 وافق المؤتمر القضائي على مشروع تجريبي لتقيم تأثير الكاميرات في قاعات المحاكمات وتسجيلات الفيديو للإجراءات. وكانت النتيجة بمواصلة التسجيل بموافقة رئيس المحكمة، و وفق القيود المقررة في حماية أطراف الدعوى، والتقييد بتحقيق غاية نشر الاجراءات في تحقيق الردع العام. وفي عام 2020 اطلق البث المباشر التجريبي للإجراءات في المحاكم. وفي جلسة المؤتمر القضائي لعام 2023 اوصت بسماح البث المباشر وفق شروط معينة وحصرا بموافقة القاضي، ووفق الشروط المثبتة في اللائحة المقررة في المؤتمر القضائي.
أما النموذج الثاني في المقارنة نأخذ التشريع الفرنسي كنموذج من النظام اللاتيني: ففيما يخص مدى جواز التسجيل الصوتي أو فيديو أو كاميرا تلفزيونية أو أي معدات تصوير لإجراءات المحاكمة فقد وضع المشرع الفرنسي قاعدة قانونية وهي المادة 308 من قانون الاجراءات الجنائية نظم فيه الموضوع – محل المقالة- فمن حيث الاصل يكون ذلك مسموحًا بشرط موافقة رئيس المحكمة، ويتم الاحتفاظ بنسخ منها في ارشيف المحكمة. ولكن في حال عدم مراعاة ما تقدم فان المخالف يعاقب بغرامة مالية قدرها 18000 ثمانية عشر الف يورو.
ونأخذ من التشريعات العربية التشريع المصري المتأثر بالتشريعات اللاتينية، إذ نظم الموضوع- محل المقالة- حديثًا بإضافة المادة 186 مكررًا الى قانون العقوبات المصري، وذلك بالقانون 71 لسنة 2021، والتي نصت على انه «مع عدم الإخلال بأي عقوبة أشد يعاقب بغرامة لا تقل عن مائة ألف جنيه و لا تزيد علي ثلاثمائة ألف جنيه كل من صور أو سجل كلمات أو مقاطع أو بث أو نشر أو عرض بأي طريق من طرق العلانية لوقائع جلسة محاكمة مخصصة لنظر دعوى جنائية دون تصريح من رئيس المحكمة المختصة بعد أخذ رأي النيابة العامة. و يُحكم فضلاً عن ذلك بمصادرة الأجهزة أو غيرها مما يكون قد استخدم في الجريمة، أو ما نتج عنها، أو محو محتواها، او إعدامه، بحسب الأحوال وتُضاعف الغرامة في حالة العود). واستنادا لما سبق، فان المشرع المصري سمح بتصوير الاجراءات في المحاكمات، ولكن وفق ضوابط يجب التقيد بها. ولا يخفى على متابعي الفيديوهات التي تنشر عن جلسات المحاكمات من القضاء المصري في ترسيخ القواعد القانونية والمبادئ القانونية وأراء فقهاء القانون في تثبيت قيم المجتمع بشكل إيجابي، وأثر ذلك في إستقرار حياة الفرد والمجتمع. وبعد بيان موقف التشريعين أعلاه، ولاكتمال فكرة الموضوع بشكل صحيح، نستعرض فيما يلي موقف المشرع الجنائي العراقي من الموضوع.
تجدر الاشارة بداية الى ان العراقيين عرفوا مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، وتحقيق الردع العام منذ الاف السنين من خلال نشر القوانين ومثاله: مسلة حمورابي، والتي وضعت في مكان عام وسط مدينة بابل لفتح المجال أمام الجميع لرؤية هذه التشريعات الجديدة، لكي لا يتم التذرع بالجهل في القوانين، وان يكون رادعًا للناس في عدم إرتكابهم الجرائم.
قانون نافذ
ولِعدم الاسهاب قدر الامكان، نأخذ موقف المشرع الجنائي العراقي الحديث، والمتأثر بالنظام الانجلوساكسوني. إذ بالبحث والنظر في قانون أُصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 المعدل النافذ؛ لاحظنا المادة 152 أشارت الى علانية المحاكمات من حيث الاصل، إذ نصت على انه «يجب ان تكون جلسات المحاكمة علنية ما لم تقرر المحكمة ان تكون كلها أو بعضها سرية لا يحضرها غير ذوي العلاقة بالدعوى مراعاة للأمن أو المحافظة على الآداب ولها ان تمنع من حضورها فئات معينة من الناس». فنلاحظ إجازة علنية للجلسات، دون الاشارة الى تسجيل بعض الاجراءات وفق ضوابط معينة. وكذلك عند النظر والبحث في قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل النافذ، وبيان مدى تجريم تصوير جلسات المحاكمات من عدمه؛ رأينا المادة 236 التي وضعت ضوابط وقيود على ذلك من خلال اشارتها الى طرق العلانية، والتي نصت على انه «يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين وبغرامة لا تزيد على مائتي دينار او بإحدى هاتين العقوبتين من نشر بإحدى طرق العلانية: 1- اخبارا بشأن محاكمة قرر القانون سريتها او منعت المحكمة نشرها او تحقيقا قائما في جناية او جنحة او وثيقة من وثائق هذا التحقيق اذا كانت سلطة التحقيق قد حظرت اذاعة شيء منه.2- اخبارا بشأن التحقيقات او الاجراءات في دعاوى النسب او الزوجية او الطلاق او الهجر او التفريق او الزنا. 3- مداولات المحاكم. 4- ما جرى في الجلسات العلنية للمحاكم بغير امانة وبسوء قصد.5- نشر اسماء او صور المجني عليهم في جرائم الاغتصاب والاعتداء على العرض واسماء او صور المتهمين الاحداث.6- ما جرى في الدعاوى المدنية او الجنائية التي قررت المحاكم سماعها في جلسة سرية او ما جرى في التحقيقات او الاجراءات المتعلقة بجرائم القذف أو السب أو افشاء الاسرار ولا عقاب على مجرد نشر الحكم إذا تم بإذن المحكمة المختصة». نلاحظ ان القاعدة القانونية أعلاه لم تشير الى جواز تسجيل جلسات المحاكمات بالفيديو بالبث المباشر او بالتسجيل الصوتي أو المرئي كما ذهبت اليه التشريعات المقارنة وبالتالي فإننا نحتاج الى تدخل تشريعي لمواكبة التشريعات الجنائية في مواجهة الجريمة. وتجدر الاشارة الى ان هذه المقالة ملخص لدراسة علمية منشورة لتشريع قاعدة قانونية تحت العنوان الاتي: د. عماد يوسف خورشيد، تسجيل جلسات المحاكمات ونشرها اعلاميًا لتحقيق الردع العام- دراسة مقارنة، مجلة الكوفة للعلوم القانونية والسياسية، حزيران 2024، العدد 59، ص 172-198.
حاصل الكلام: وتأسيسًا على كل ما تقدم، نقترح لتطبيق الفقرة اعلاه؛ تشريع قانون بتعديل قانون العقوبات العراقي النافذ، بإضافة فقرة جديدة تكون بعنوان رقم (7) الى المادة ( 236 ) ونرى بناء على الاسس العلمية ان يكون بالصيغة الاتية «مع عدم الاخلال بأي عقوبة اشد يعاقب بغرامة لا تقل عن مليون دينار ولا يزيد على عشرة ملاين دينار كل من صور او سجل كلمات او مقاطع او بث او نشر او عرض بأي طريق من طرق العلانية لوقائع جلسة محاكمة لنظر الدعوى الجزائية دون تصريح من رئيس المحكمة المختصة بعد اخذ رأي الادعاء العام. ويحكم فضلا عن ذلك بمصادرة الاجهزة او غيرها مما يكون قد استخدم في الجريمة، او ما نتج عنها، او محو محتواها، بحسب الاحوال».
وبذلك يكون تسجيل المحاكمات ضمن نطاق سلطة القضاء وفق ضوابط قانونية، ويمكن ان يكون من قبل دائرة اعلام مجلس القضاء الاعلى وبإشراف المحكمة المختصة. فتسجيل وعرض بعض جلسات المحاكمات تساهم وبشكل فاعل في كبح جماح النفوس التي تفكر في ارتكاب الجرائم، ويكون سببًا في ان ينتبه لعاقبة امره ويأخذ عبرة من غيره ، وكيف لا والقضاء هو حامي الحقوق والحريات الاساسية للأفراد. فقسم من الشباب حاليًا يصدقون ما يرونه بأعينهم امام وسائل التواصل الاجتماعي –الاعلام- اكثر من الاستماع الى حقائق الامور.
وفضلا عن ذلك، نقترح الى حين اكتمال تشريع القانون أعلاه- وفق الاسس العلمية كما تبين- وبعد وضع الضوابط من قبل مجلس القضاء الاعلى الموقر بتسجيل بعض إجراءات جلسات المحاكمات في عدد محدد من محاكم العاصمة بغداد وفق ضوابط لا تخرج عن تحقيق غاية الردع العام. باعتبارها ضرورة لإظهار الضمانات الاساسية في المحاكمات، ولتثبيت الثقة بالقانون بشكل جيد لدى افراد المجتمع.
استاذ القانون الجنائي المساعد - كركوك/ العراق