الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
وكان (خور عبد الـله) لنا

بواسطة azzaman

هاشتاك الناس

وكان (خور عبد الـله) لنا

ياس خضير البياتي  

 

كان يا ما كان، في بلدٍ يُدعى العراق، (خورٌ) يُعرف باسم (خور عبد الله). إنه (خور) مهم واستراتيجي، يتنفس البحر من خلاله، وتمد التجارة -على مداره-عنقَها إلى العالم. أو كما يحب بعض الناس أن يطلقوا عليه: «الشُّبَّاك الوحيد المطل على البحر». لم يكن هذا (الخور) مجرد مجرىً مائي؛ بل كان شريانَ حياةٍ وسيادةٍ وشرف

دعونا نقرأْ معًا قصة (خور عبد الله)... لا، إنها ليست أسطورة؛ بل هي مهزلة واقعية، من إنتاج طبقةٍ سياسية، تفتقر إلى الخجل، وتخرج برلمانيين «ينامون» في القاعة، ولا يستيقظون إلا للتصفيق لكلِّ صفقةِ بيعٍ جديدة.

السياسيون الذين اجتمعوا حول طاولة الاتفاقية، لم يُلقوا نظرة على الخريطة، ولم يسألوا عن خطوط الطول والعرض. كل ما قاموا به هو التأكد من أن الحبر في الأقلام يكفي للتوقيع، وأن حقيبة الدولارات جاهزة تحت الطاولة. لم يكن (الخور) بالنسبة لهم أكثر من خطٍّ أزرقَ زائد، يشوه جمالَ الخريطة، ويحتاج إلى «تعديل». في بلدٍ أصبحت فيه التجارة عادة، والخيانة وظيفة

صوّت البرلمان على اتفاقية (خور عبد الله) عام 2013؛ لكنها قُوبلت برفضٍ من المحكمة الاتحادية التي عدَّتها «مخالفةً للدستور». ورغم ذلك، لم يكن الحكم مقبولاً لدى رئاسة الوزراء ورئاسة الجمهورية؛ حيث تساءلوا: «لماذا تعترض المحكمة؟ هذه اتفاقية!» المشكلة لم تكن في الكويت؛ بل تكمُن في الذين باعوا تلك الاتفاقية مقابلَ المال، فباعوا البحر بثمنٍ بخْس. ثم قالوا: «هذا إنجازٌ تاريخي!!» 

في بلدٍ اعتاد بيعَ كل شيء، من النفط إلى المناصب، لم يكن غريبًا أن يأتيَ يومٌ يُباع فيه (خور عبد الله). كانت الصفقة بسيطة: توقيعان، بيانٌ مشترك، وعددٌ كبير من الابتسامات الزائفة أمام الكاميرات. باعوه كما لو كانوا يبيعون عُلبة سجائر على الرصيف، من دون أن يُبدوا ذرة اكتراثٍ للتفاوض

باعوه ببساطة، دون صفقةٍ علنية، أو استفتاءٍ شعبي، أو مؤتمرٍ وطني... بل من خلال اتفاقية تُدعى (اتفاقية تنظيم الملاحة)، اسمٌ أنيقٌ يشبه عطرًا فرنسيًا؛ لكنه يخفي وراءه رائحة صفقة قذرة. المثير للسخرية أن الذين باعوا (الخور) يتحدثون اليوم عن (السيادة) و(الكرامة الوطنية)... يا لها من مفارقة! يبيعون البحر، ويمدوننا بطنين من الكلمات الفارغة

هم نفس الأشخاص الذين باعوا كل شيء قبل البحر، فلا أحد منهم يدرك أين يبدأ العراق وأين ينتهي. مَن باعوا (خور عبد الله) هم أنفسهم مَن باعوا الكهرباء والماء والتعليم والمستشفيات والكرامة، لكن في هذه المرة، باعوا البحر. ربما لأن اليابسة قد انتهت، ولم يتبق سوى الماء

لا داعي للقلق، فليس هناك من يهتم. السياسيون مشغولون بحفلاتِ توقيعٍ أخرى، وصفقاتٍ جديدة، ومآدبَ فاخرة. لدينا برلمان يجتمع مرة كل موسم، ليس لمناقشة قضايا مهمة؛ مثل: استرجاع (الخور)؛ بل لمناقشة كمية (السندويتشات) الموزعة خلال الجلسات، ومدى برودة القاعات، ومَن يتحمل فاتورة الإنترنت؟ وعدد الكراسي المكسورة، وجدول سفر الوفود إلى الخارج

لم يكن الأمر بحاجة إلى حربٍ أو غزوٍ؛ بل كان مجرد توقيع. وهكذا، انسحب العراق من البحر كما ينسحب لاعبٌ خاسرٌ من رقعة الشطرنج، دون أن يحرك حتى ولو قطعة واحدة. لقد أصبح (خور عبد الله) مجرد سطر محذوف من الجغرافيا؛ ليظل شاهدًا آخر على وطن يتآكل بصمت، ويُباع قطعة واحدةً في كل مرة، بأيدي أبنائه، ومن دون أي تردد. لقد ظل (الخور) شاهدًا صامتًا على صفقة لا تحتاج إلى شهادةٍ أو تحقيق؛ إذ إنها جريمة مرت في وضح النهار بجميع أركانها، وبمباركة القادة الشجعان

ومع ذلك، يظل أملنا مع أولئك القلائل الذين جهروا بأصواتهم، وكشفوا الوثائق، وفضحوا تفاصيل (البيع المخزي). إنهم يستحقون التحية، وليس أولئك الذين يتلاعبون في الظلام، ويتلقون الثمن، ثم يبتسمون على شاشات التلفاز. وسيبقى صوتهم يناضل حتى يعود الماء إلى أهله، أو يجف البحر، ويصبح ملحًا في عيون مَن خذل الخور الجميل.

وهكذا انتهت القضية

لم يخرج الناس إلى الشوارع، ولم تُكسر النوافذ، ولم تُحرق الإطارات. لم يستقل أحد، لم يُحاكَم أحد، ولم يسأل أحدٌ: كيف انتهى البحرُ إلى صفقةٍ لا تغرق… إلا الوطن. وهكذا… أسقطوا مواطنًا عراقيًا آخر، كقشّة طافية فوق غريقٍ تعب من النجاة.

باعوا (الخور)، وباعوا معه حلم الميناء، وآخر منفذ، وآخر نقطة زرقاء في الخريطة. باعوه، وعلّقوا على الخريطة سهمًا: البحر هناك... ولكن دخول العراقيين ممنوع!! باعوه، وأصبح (الخور) ذكريات، ومكانه في الخريطة مكتوب: كان يا مكان... وكان (الخور) لنا. باعوه، ورقصوا في حفلة البيع، وكتبوا في البيان: «حفظنا الشرف والسيادة!».

 

yaaas@hotmail.com

 


مشاهدات 59
الكاتب ياس خضير البياتي  
أضيف 2025/05/11 - 3:22 PM
آخر تحديث 2025/05/12 - 11:33 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 570 الشهر 14524 الكلي 11008528
الوقت الآن
الإثنين 2025/5/12 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير