المشاعر لا تموت إحتراقاً
ثامر مراد
يقولون إن كل شيء في هذا العالم، مهما بلغت صلابته، ينهار أمام وهج النار، يتفتت، يتحول إلى رماد، ثم تحمله الريح حيث لا يعود يُعرف له اسم ولا شكل. كل شيءٍ ينهار أمام الحرارة، إلا المشاعر... فإن لها قدرًا مختلفًا، وصراعًا آخر، وألمًا أشد خفاء.
المشاعر كائنات شفافة، لا تراها العيون لكنها تسكن الأعماق، تعيش بين نبض القلب وهمس الفكر، تتغذى على دفء الكلمات، وعلى حرارة الاهتمام، وعلى نظرات الصدق التي تبعث فيها الأمان والحياة. أما البرودة، تلك القاتلة الصامتة، فلا تحرق المشاعر كما تفعل النار بالأشياء، بل تخنقها، تبردها حدّ التجمّد، حدّ العدم، حتى تختفي نهائيًا دون أثر.
نعم، المشاعر لا تموت فجأة، ولا تُعلن احتضارها صراحة، بل تذبل بصمت، تتراجع، تتقلص، ثم تنطفئ كما تنطفئ شمعة صغيرة تُركت في غرفة خالية باردة، بلا نفس، بلا صوت، بلا وداع.
أصعب موت هو ذلك الذي يحدث على مهل. تخيّل وردة جميلة في فصل الشتاء، لا تقطفها يد، ولا تقترب منها قدم، فقط... تُهمل، تُترك تقاوم وحدها برودة الهواء، حتى تفقد لونها، تفقد رائحتها، وأخيرًا تسقط أوراقها واحدة تلو الأخرى، دون أن يشعر بها أحد. هكذا تموت المشاعر، لا تُحرقها النيران، بل يقتلها الغياب، الصمت، التبلد، التجاهل، وكل تلك التفاصيل الصغيرة التي كنا نمر بها مرور الكرام، دون أن نعلم أنها سكاكين باردة تُغرس في قلب علاقة، في صدق صداقة، في حب، في ذكرى. أحيانًا البرود أشد قسوة من النسيان، لأن النسيان يأتي كرحمة، كإغلاق صفحة لا جدوى من البقاء عندها، أما البرود فهو انتظار قاتل، مرحلة من الجمود حيث تبقى المشاعر حية ولكنها مشلولة، تتألم دون أن تستطيع الهروب، تعاني من جمود الطرف الآخر، حتى تختنق وتفنى.
العلاقات لا تنتهي بصوت صراخ ولا بوقوع خيانة دومًا، أحيانًا تنتهي بصمت مطبق، بحديث ناقص، بنظرات فاترة، بمواعيد مؤجلة، بقلوب تنسحب دون أن تخبرنا، بأيدٍ توقفت عن الكتابة، وأرواح توقفت عن السؤال. ومن هنا تبدأ المشاعر بالانطفاء، شيئًا فشيئًا، حتى تصبح فراغًا
ما أقسى البرود حين يغزو عالم المشاعر! إنه موت بلا جنازة، خسارة بلا بكاء، فراغ بلا وداع.
إن المشاعر، مهما بلغت من الصدق والعمق، تحتاج لمن يحتضنها، يرعاها، يدفئها بالكلمة، بالنظرة، بالسؤال البسيط الذي يحمل في طياته ألف معنى حب واهتمام. وإلا... فمصيرها أن تحترق بالبرود حتى تتبخر، وتصبح ذكرى عابرة في قلبٍ آخر، وقصة انتهت بصمتٍ أبدي.
فلنتعلم أن نمنح الدفء، أن نكون قبس نار لا جليد صامت. فالحياة قصيرة، والمشاعر أثمن من أن تذبل بين أيدينا ونحن صامتون.