الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الشاعر‭ ‬والبلاد‭ (‬12‭)‬

بواسطة azzaman

الشاعر‭ ‬والبلاد‭ (‬12‭)‬

حسن‭ ‬النواب

 

في‭ ‬تلك‭ ‬الظهيرة‭ ‬الباردة؛‭ ‬لبثَ‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬يترقَّبُ‭ ‬قدوم‭ ‬أحد‭ ‬أدباء‭ ‬الجيل‭ ‬الثمانيني‭ ‬إلى‭ ‬مقهى‭ ‬حسن‭ ‬عجمي؛‭ ‬ربما‭ ‬سيطلُّ‭ ‬عدنان‭ ‬الصائغ‭ ‬بعصافيره‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تحبُّ‭ ‬الرصاص‭ ‬على‭ ‬حين‭ ‬غرَّةٍ؛‭ ‬أو‭ ‬عبد‭ ‬الرزاق‭ ‬الربيعي‭ ‬قادماً‭ ‬من‭ ‬المعهد‭ ‬الزراعي‭ ‬في‭ ‬المسيَّب؛‭ ‬أو‭ ‬يدخل‭ ‬وارد‭ ‬بدر‭ ‬السالم‭ ‬بحزنه‭ ‬البصري‭ ‬قانطاً‭ ‬وغبار‭ ‬الجبهة‭ ‬على‭ ‬محيَّاهُ؛‭ ‬إذْ‭ ‬كان‭ ‬مراسلاً‭ ‬حربياً‭ ‬لجريدة‭ ‬القادسية‭ ‬وشهد‭ ‬أخطر‭ ‬المعارك‭ ‬وأكثرها‭ ‬شراسة؛‭ ‬وأحصى‭ ‬عدد‭ ‬الجنود‭ ‬القتلى‭ ‬الذين‭ ‬ذبحتهم‭ ‬الشظايا؛‭ ‬والذين‭ ‬تركوا‭ ‬هناك‭ ‬مثل‭ ‬جذوع‭ ‬منخورة‭ ‬في‭ ‬العراء‭. ‬لكنَّ‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬يئس‭ ‬من‭ ‬حضورهم‭ ‬واشتعل‭ ‬الدمعُ‭ ‬في‭ ‬حدقتيهِ؛‭ ‬فليس‭ ‬هناك‭ ‬على‭ ‬أرائك‭ ‬المقهى‭ ‬سوى‭ ‬الشعراء‭ ‬الذين‭ ‬يقتسمون‭ ‬مائدة‭ ‬الستينيات؛‭ ‬فيما‭ ‬كان‭ ‬خزعل‭ ‬الماجدي‭ ‬ينتظر‭ ‬قدوم‭ ‬النقيب‭ ‬المُجنَّد‭ ‬رعد‭ ‬عبد‭ ‬القادر‭ ‬من‭ ‬شرق‭ ‬البصرة‭ ‬حتى‭ ‬يقرأ‭ ‬لهُ‭ ‬قصيدة‭ ‬خزائيل‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬قبل‭ ‬أيام‭.  ‬هكذا‭ ‬ظلَّتْ‭ ‬سنوات‭ ‬الجمر‭ ‬تتراكض‭ ‬في‭ ‬عيون‭ ‬الجيل‭ ‬الثمانيني‭ ‬وتتلظَّى‭ ‬في‭ ‬قلوبهم‭ ‬ونصوصهم‭ ‬النثرية‭ ‬تلهثُ‭ ‬بين‭ ‬الملاجئ‭ ‬وساحة‭ ‬العرضات‭ ‬والكراجات‭ ‬والحانات‭ ‬التي‭ ‬يمضون‭ ‬بها‭ ‬أيام‭ ‬حريتهم‭ ‬السبعة‭. ‬وفي‭ ‬زحمة‭ ‬النار‭ ‬والشظايا‭ ‬ظهرت‭ ‬بعض‭ ‬نصوصهم‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬وقد‭ ‬كحَّلَ‭ ‬حروفها‭ ‬وجمَّل‭ ‬قوامها‭ ‬حبر‭ ‬المطابع‭. ‬كانت‭ ‬غبطة‭ ‬هائلة‭ ‬ترمِّمُ‭ ‬أرواحهم‭ ‬المنكسرة‭ ‬وهم‭ ‬يبصرون‭ ‬قصائدهم‭ ‬منشورة‭ ‬بجوار‭ ‬قصيدة‭ ‬لشاعر‭ ‬ستيني‭ ‬ويتابعها‭ ‬بالنقد‭ ‬شاعر‭ ‬سبعيني،‭ ‬وأخبار‭ ‬الجبهات‭ ‬تدمي‭ ‬قلوب‭ ‬الأمهات‭ ‬الثواكل‭. ‬محظوظ‭ ‬ذلك‭ ‬الشاعر‭ ‬الثمانيني‭ ‬لو‭ ‬نُشرت‭ ‬قصيدتهُ‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬إجازة‭ ‬حتى‭ ‬يتباهى‭ ‬بها‭ ‬أمام‭ ‬أترابه‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭. ‬الثمانينيون‭ ‬ظهروا‭ ‬رويداً‭ ‬رويداً‭ ‬على‭ ‬شرفة‭ ‬الشعر‭ ‬العراقي؛‭ ‬وكبرت‭ ‬أحزانهم‭ ‬ونضجتْ‭ ‬قصائدهم،‭ ‬تراهم‭ ‬يمسحون‭ ‬بقايا‭ ‬دم‭ ‬الشهداء‭ ‬والدمع‭ ‬عن‭ ‬خوذهم‭ ‬تارةً،‭ ‬ويلعنون‭ ‬الحرب‭ ‬جهاراً‭ ‬تارةً‭ ‬أخرى؛‭ ‬صارت‭ ‬لهم‭ ‬أسماء‭ ‬يفخرون‭ ‬بها‭ ‬وقصائد‭ ‬يراهنون‭ ‬عليها؛‭ ‬قصائدهم‭ ‬التي‭ ‬رافقتهم‭ ‬بالهجوم‭ ‬واستبسلتْ‭ ‬معهم‭ ‬في‭ ‬المعارك‭ ‬الضارية،‭ ‬حتى‭ ‬غدتْ‭ ‬نصوصهم‭ ‬النثرية‭ ‬شموعاً‭ ‬تتوهَّجُ‭ ‬في‭ ‬بوصلات‭ ‬الروح‭ ‬وفي‭ ‬المزاغل‭ ‬والخنادق‭ ‬والملاجئ‭ ‬والحجابات‭ ‬ودروب‭ ‬الألغام؛‭ ‬فقد‭ ‬أينعت‭ ‬جراحهم‭ ‬أجمل‭ ‬النصوص‭ ‬في‭ ‬دروبهم‭ ‬الحرجة‭ ‬والموحشة‭ ‬وأصدروا‭ ‬دواوينهم‭ ‬تباعاً؛‭ ‬واختلفوا‭ ‬وتصالحوا‭ ‬وتشاجروا‭ ‬كثيراً‭  ‬في‭ ‬ما‭ ‬بينهم‭ ‬واقتربوا‭ ‬وتباعدوا؛‭ ‬ليصبح‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭ ‬حاملاً‭ ‬لأوجاعه‭ ‬بمفرده‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭. ‬لقد‭ ‬فرقَّهم‭ ‬بطش‭ ‬النظام‭ ‬القمعي‭ ‬والحروب‭ ‬والحصار‭ ‬في‭ ‬أصقاع‭ ‬الأرض؛‭ ‬وهناك‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬المهاجر‭ ‬مازالت‭ ‬جلودهم‭ ‬تنبعثُ‭ ‬منها‭ ‬رائحة‭ ‬البارود‭ ‬ويقبضون‭ ‬على‭ ‬جمرة‭ ‬الشعر‭ ‬بأكفٍّ‭ ‬من‭ ‬عوسج‭ ‬ومسد؛‭ ‬ويحرثون‭ ‬أرض‭ ‬القصيدة‭ ‬بمخالب‭ ‬أساهم‭ ‬ويزرعونها‭ ‬بذور‭ ‬شهقاتهم‭ ‬من‭ ‬ويلات‭ ‬الحرب‭ ‬كي‭ ‬تزهر‭ ‬بالنور‭ ‬الملائكي‭ ‬الذي‭ ‬يشعُّ‭ ‬في‭ ‬أرخبيل‭ ‬أحلامهم‭ ‬المهدورة؛‭ ‬فالبلاد‭ ‬مصرَّة‭ ‬على‭ ‬التهامهم‭ ‬واحداً‭ ‬واحداً‭ ‬وبذرائع‭ ‬باطلة‭. ‬يتذكَّر‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬قصيدة‭ ‬الشاعر‭ ‬والقتلة‭ ‬التي‭ ‬نشرتها‭ ‬جريدة‭ ‬الجمهورية‭ ‬لسعد‭ ‬جاسم‭ ‬وقد‭ ‬دخل‭ ‬إلى‭ ‬قاعة‭ ‬نادي‭ ‬الأدباء‭ ‬بمعطف‭ ‬أنيق‭ ‬وعينين‭ ‬زرقاوين‭ ‬تقطران‭ ‬زهواً‭ ‬بقصيدته‭ ‬التي‭ ‬أهداها‭ ‬إلى‭ ‬الشعراء‭ ‬الذين‭ ‬تطاردهم‭ ‬هراوة‭ ‬الحرب؛‭ ‬وهو‭ ‬لم‭ ‬يزل‭ ‬طالباً‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬كلية‭ ‬الفنون‭ ‬الجميلة؛‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬إلاَّ‭ ‬لحظات‭ ‬حتى‭ ‬دخل‭ ‬القاعة‭ ‬الناقد‭ ‬يوسف‭ ‬نمر‭ ‬ذياب‭ ‬وقد‭ ‬تعتعتهُ‭ ‬كؤوس‭ ‬البيرة‭ ‬في‭ ‬حانة‭ ‬المرايا؛‭ ‬كان‭ ‬يردِّد‭ ‬مقاطع‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬سعد‭ ‬القصيرة‭ ‬متهكماً‭ ‬ومحتجاً‭ ‬على‭ ‬خطابها‭ ‬المعارض‭ ‬للسلطة‭ ‬والحرب؛‭ ‬وهنا‭ ‬هبًّ‭ ‬الشاعر‭ ‬كأنَّهُ‭ ‬سيدخل‭ ‬في‭ ‬سجالٍ‭ ‬مع‭ ‬الناقد‭ ‬نمر‭ ‬ذياب؛‭ ‬لكنَّه‭ ‬بفطنةٍ‭ ‬أمسك‭ ‬بغضبه‭ ‬وغادر‭ ‬القاعة‭ ‬إلى‭ ‬حديقة‭ ‬نادي‭ ‬الأدباء،‭ ‬لأنَّ‭ ‬عواقب‭ ‬هذا‭ ‬الشجار‭ ‬لو‭ ‬حدث‭ ‬سيأخذهُ‭ ‬إلى‭ ‬التهلكة‭. ‬وتذكرَّ‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬دخول‭ ‬الشاعر‭ ‬خزعل‭ ‬الماجدي‭ ‬إلى‭ ‬نادي‭ ‬الأدباء‭ ‬ذات‭ ‬مساء‭ ‬شتوي‭ ‬وهو‭ ‬يضع‭ ‬لفاعاً‭ ‬أحمر‭ ‬حول‭ ‬رقبته‭ ‬وكيف‭ ‬تجمَّع‭ ‬حوله‭ ‬الأصدقاء‭ ‬بحبور؛‭ ‬بعد‭ ‬براءته‭ ‬من‭ ‬تهمة‭ ‬غامضة‭ ‬حول‭ ‬رسالة‭ ‬الماجستير‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يكتبها‭ ‬في‭ ‬الطب‭ ‬البيطري‭. ‬وكان‭ ‬الماجدي‭ ‬ومازال‭ ‬محراباً‭ ‬مقدَّساً‭ ‬في‭ ‬عيون‭ ‬الجيل‭ ‬الثمانيني؛‭ ‬فقد‭ ‬احتضن‭ ‬نصوصهم‭ ‬ورعاها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نصوصه‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت؛‭ ‬فيما‭ ‬كانت‭ ‬السلطة‭ ‬الثقافية‭ ‬وثيران‭ ‬الشعر‭ ‬العامودي‭ ‬ينظرون‭ ‬إلى‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬كوسيلة‭ ‬تحريض‭ ‬خبيثة‭ ‬لتدمير‭ ‬النظام؛‭ ‬إذْ‭ ‬كان‭ ‬محرمٌ‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬نشر‭ ‬نصوص‭ ‬صلاح‭ ‬حسن‭ ‬ومحمد‭ ‬جاسم‭ ‬مظلوم‭ ‬ومحمد‭ ‬تركي‭ ‬النصَّار‭ ‬وعبد‭ ‬الزهرة‭ ‬زكي‭ ‬والشاعر‭ ‬الغجري‭ ‬لأنهم‭ ‬لا‭ ‬يحملون‭ ‬أية‭ ‬عواطف‭ ‬طيبة‭ ‬إزاء‭ ‬النظام‭ ‬القمعي؛‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬جريدة‭ ‬الجمهورية‭ ‬تنشرُ‭ ‬قصائد‭ ‬تافهة‭ ‬وبلا‭ ‬معنى‭ ‬بين‭ ‬أسبوع‭ ‬وآخر‭ ‬لأحد‭ ‬الفتيان‭ ‬المدلَّلين؛‭ ‬وبعد‭ ‬التحرِّي‭ ‬عن‭ ‬سرِّ‭ ‬النشر‭ ‬المتواصل‭ ‬لهذا‭ ‬الرقيع؛‭ ‬اتَّضحَ‭ ‬أنَّ‭ ‬أباهُ‭ ‬كان‭ ‬ضابطاً‭ ‬عسكرياً‭ ‬برتبة‭ ‬عالية‭. ‬وفي‭ ‬ملتقى‭ ‬تموز‭ ‬الشعري‭ ‬الذي‭ ‬حدث‭ ‬عام‭ ‬87‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬زمرة‭ ‬مدلَّلة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء؛‭ ‬من‭ ‬اهتمام‭ ‬الصحافة‭ ‬بنصوصهم‭ ‬الرثَّة‭ ‬إلى‭ ‬الأجنة‭ ‬الباذخة‭ ‬التي‭ ‬احتلوها‭ ‬في‭ ‬فندق‭ ‬الشيراتون؛‭ ‬فيما‭ ‬كان‭ ‬كزار‭ ‬حنتوش‭ ‬المدعو‭ ‬رسمياً‭ ‬للمهرجان‭ ‬يقبع‭ ‬منسياً‭ ‬مهملاً‭ ‬في‭ ‬غرفةٍ‭ ‬ضيِّقة‭ ‬أشبه‭ ‬بقبو‭ ‬مع‭ ‬منذر‭ ‬عبد‭ ‬الحر؛‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الغرفة‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬الرقم‭ ‬714‭ ‬من‭ ‬الطابق‭ ‬السابع؛‭ ‬أقام‭ ‬الشعراء‭ ‬الصعاليك‭ ‬مهرجاناً‭ ‬لا‭ ‬ينسى‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الغرفة‭ ‬البائسة‭. (‬يتبع‭)‬

 


مشاهدات 133
الكاتب حسن‭ ‬النواب
أضيف 2024/04/29 - 5:04 PM
آخر تحديث 2024/05/16 - 8:30 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 416 الشهر 6419 الكلي 9244457
الوقت الآن
الخميس 2024/5/16 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير