حسن النواب
في تلك الظهيرة الباردة؛ لبثَ صديق الغجري يترقَّبُ قدوم أحد أدباء الجيل الثمانيني إلى مقهى حسن عجمي؛ ربما سيطلُّ عدنان الصائغ بعصافيره التي لا تحبُّ الرصاص على حين غرَّةٍ؛ أو عبد الرزاق الربيعي قادماً من المعهد الزراعي في المسيَّب؛ أو يدخل وارد بدر السالم بحزنه البصري قانطاً وغبار الجبهة على محيَّاهُ؛ إذْ كان مراسلاً حربياً لجريدة القادسية وشهد أخطر المعارك وأكثرها شراسة؛ وأحصى عدد الجنود القتلى الذين ذبحتهم الشظايا؛ والذين تركوا هناك مثل جذوع منخورة في العراء. لكنَّ صديق الغجري يئس من حضورهم واشتعل الدمعُ في حدقتيهِ؛ فليس هناك على أرائك المقهى سوى الشعراء الذين يقتسمون مائدة الستينيات؛ فيما كان خزعل الماجدي ينتظر قدوم النقيب المُجنَّد رعد عبد القادر من شرق البصرة حتى يقرأ لهُ قصيدة خزائيل التي كتبها قبل أيام. هكذا ظلَّتْ سنوات الجمر تتراكض في عيون الجيل الثمانيني وتتلظَّى في قلوبهم ونصوصهم النثرية تلهثُ بين الملاجئ وساحة العرضات والكراجات والحانات التي يمضون بها أيام حريتهم السبعة. وفي زحمة النار والشظايا ظهرت بعض نصوصهم في الصحف وقد كحَّلَ حروفها وجمَّل قوامها حبر المطابع. كانت غبطة هائلة ترمِّمُ أرواحهم المنكسرة وهم يبصرون قصائدهم منشورة بجوار قصيدة لشاعر ستيني ويتابعها بالنقد شاعر سبعيني، وأخبار الجبهات تدمي قلوب الأمهات الثواكل. محظوظ ذلك الشاعر الثمانيني لو نُشرت قصيدتهُ وهو في إجازة حتى يتباهى بها أمام أترابه من الشعراء. الثمانينيون ظهروا رويداً رويداً على شرفة الشعر العراقي؛ وكبرت أحزانهم ونضجتْ قصائدهم، تراهم يمسحون بقايا دم الشهداء والدمع عن خوذهم تارةً، ويلعنون الحرب جهاراً تارةً أخرى؛ صارت لهم أسماء يفخرون بها وقصائد يراهنون عليها؛ قصائدهم التي رافقتهم بالهجوم واستبسلتْ معهم في المعارك الضارية، حتى غدتْ نصوصهم النثرية شموعاً تتوهَّجُ في بوصلات الروح وفي المزاغل والخنادق والملاجئ والحجابات ودروب الألغام؛ فقد أينعت جراحهم أجمل النصوص في دروبهم الحرجة والموحشة وأصدروا دواوينهم تباعاً؛ واختلفوا وتصالحوا وتشاجروا كثيراً في ما بينهم واقتربوا وتباعدوا؛ ليصبح كل واحد منهم حاملاً لأوجاعه بمفرده في نهاية المطاف. لقد فرقَّهم بطش النظام القمعي والحروب والحصار في أصقاع الأرض؛ وهناك في البلاد أو في المهاجر مازالت جلودهم تنبعثُ منها رائحة البارود ويقبضون على جمرة الشعر بأكفٍّ من عوسج ومسد؛ ويحرثون أرض القصيدة بمخالب أساهم ويزرعونها بذور شهقاتهم من ويلات الحرب كي تزهر بالنور الملائكي الذي يشعُّ في أرخبيل أحلامهم المهدورة؛ فالبلاد مصرَّة على التهامهم واحداً واحداً وبذرائع باطلة. يتذكَّر صديق الغجري قصيدة الشاعر والقتلة التي نشرتها جريدة الجمهورية لسعد جاسم وقد دخل إلى قاعة نادي الأدباء بمعطف أنيق وعينين زرقاوين تقطران زهواً بقصيدته التي أهداها إلى الشعراء الذين تطاردهم هراوة الحرب؛ وهو لم يزل طالباً في المرحلة الأخيرة من كلية الفنون الجميلة؛ ما هي إلاَّ لحظات حتى دخل القاعة الناقد يوسف نمر ذياب وقد تعتعتهُ كؤوس البيرة في حانة المرايا؛ كان يردِّد مقاطع من قصيدة سعد القصيرة متهكماً ومحتجاً على خطابها المعارض للسلطة والحرب؛ وهنا هبًّ الشاعر كأنَّهُ سيدخل في سجالٍ مع الناقد نمر ذياب؛ لكنَّه بفطنةٍ أمسك بغضبه وغادر القاعة إلى حديقة نادي الأدباء، لأنَّ عواقب هذا الشجار لو حدث سيأخذهُ إلى التهلكة. وتذكرَّ صديق الغجري دخول الشاعر خزعل الماجدي إلى نادي الأدباء ذات مساء شتوي وهو يضع لفاعاً أحمر حول رقبته وكيف تجمَّع حوله الأصدقاء بحبور؛ بعد براءته من تهمة غامضة حول رسالة الماجستير التي كان يكتبها في الطب البيطري. وكان الماجدي ومازال محراباً مقدَّساً في عيون الجيل الثمانيني؛ فقد احتضن نصوصهم ورعاها أكثر من نصوصه في ذلك الوقت؛ فيما كانت السلطة الثقافية وثيران الشعر العامودي ينظرون إلى قصيدة النثر كوسيلة تحريض خبيثة لتدمير النظام؛ إذْ كان محرمٌ في ذلك الوقت نشر نصوص صلاح حسن ومحمد جاسم مظلوم ومحمد تركي النصَّار وعبد الزهرة زكي والشاعر الغجري لأنهم لا يحملون أية عواطف طيبة إزاء النظام القمعي؛ في الوقت الذي كانت جريدة الجمهورية تنشرُ قصائد تافهة وبلا معنى بين أسبوع وآخر لأحد الفتيان المدلَّلين؛ وبعد التحرِّي عن سرِّ النشر المتواصل لهذا الرقيع؛ اتَّضحَ أنَّ أباهُ كان ضابطاً عسكرياً برتبة عالية. وفي ملتقى تموز الشعري الذي حدث عام 87 كانت هناك زمرة مدلَّلة في كل شيء؛ من اهتمام الصحافة بنصوصهم الرثَّة إلى الأجنة الباذخة التي احتلوها في فندق الشيراتون؛ فيما كان كزار حنتوش المدعو رسمياً للمهرجان يقبع منسياً مهملاً في غرفةٍ ضيِّقة أشبه بقبو مع منذر عبد الحر؛ في تلك الغرفة التي تحمل الرقم 714 من الطابق السابع؛ أقام الشعراء الصعاليك مهرجاناً لا ينسى في تلك الغرفة البائسة. (يتبع)