حسن النواب
كانت مقهى حسن عجمي المحراب الذي يلتقي فيه شعراء الثمانينيات، ليس كلهم؛ إذْ كان نفرٌ منهم يرى في تلك الأمكنة ضياعاً للوقت، لكنَّ المفارقة أنَّ معظم الذين استهجنوا واستنكفوا من دخول المقهى لم يحققوا ما يسترعي الانتباه في نصوصهم؛ وظلوا حتى الساعة بلا بوصلة حقيقية للشعر والسرد، وربما كان يكمن وراء تمنعهم من دخول مقهى حسن عجمي نظرة استعلائية فارغة؛ كون المقهى مكاناً متواضعاً لا يناسب البدلات الرسمية والقشيبة التي كانوا يحرصون على ارتدائها في المهرجانات؛ بينما كان الرديف لهم من شعراء الثمانينيات يحجون إليها من الجبهات البعيدة بخوذهم المعفَّرة بدخان القنابل وعيونهم الجائعة لرؤية المدن، يتوافدون كطيور هائمة في إجازاتهم الى المقهى وهم يحملون في جعبهم التي تفوح منها رائحة البارود قصاصات قصائدهم النثرية المندفعة بأنف طري؛ لكسر قضبان نافذة الشعر التقليدي التي يجلس إلى جوارها باطمئنان شعراء الستينيات والذين لا يزعجهم سوى الفوضى التي صنعها شعراء الثمانينيات، فدخول شاعر ثمانيني إلى مجلسهم يعني أنَّ قدح الشاي الذي بين أصابعهم أصبح بارداً؛ والحوار الذي يتجاذبون سيجترح رصانته نزق وسخط الشاعر العائد من أتون النار. ومع مرور الوقت بدأ الستينيون يفسحون مساحة مقعد أو مقعدين من مجالسهم الرسمية لشاعر ثمانيني لا يهتاب منهم ويتسلَّح بقلب باسل؛ حتى غدت نافذة الشعر العراقية مزدحمة بهؤلاء الشعراء المتمردين الذين خبروا الحرب ودُبغَّتْ جلودهم بالبارود وفي الخنادق الرطبة وتصبَّب عرق الحياء من جباههم وأكلهم السأم؛ وهم ينتظرون طويلاً في الاستعلامات حتى يسمح لهم المسؤول الثقافي في الدخول لاستلام قصائدهم، والتي سرعان ما تجد مكانها في سلال المهملات؛ ولم يلق عليها المحرر الثقافي حتى نظرة الشفقة وهو يقذف بها الى العدم. ومع ذلك لم يفقدوا الأمل وهم يقتربون بدعة وسكينه من حشود الشعراء المتربعين على مقاعد الشعر. كانوا لا يضجرون من جلب قدح الماء إلى فم شاعر ستيني؛ ويحرصون على دفع ثمن الشاي لشاعر سبعيني، فالذي يكنزونهُ في صدورهم من هموم شعرية كفيلة بإزاحة هذه التبعية المقيتة والاستهانة بهم في قادم الأعوام. ظلَّ الثمانينيون يقتنصون حتى السويعات الشحيحة كي يهبطوا بها من دخان الجبهات إلى دخان الأدباء؛ ومنهم الذي ترك مقعده الدراسي شاغراً لأسابيع حتى يتابع حلقة دراسية عن الشعر في البصرة والموصل أو في مهرجان ما؛ كانوا يحملون بين أكفهم قصائد وجِلة ومرتبكة جرَّاء الخوف من قصف الجبهات ورعب نقاط التفتيش أو الفصل من مقاعد الحياة الجامعية؛ ويحلمون برؤية نصوصهم وقد لامسها حبر المطابع وهم يدركون أنَّ شعرهم أصدق وأقسى وأعمق تجربة وسيقهر نباح القصائد الرثَّة التي ازدهرت بها صحف ذلك الزمان. اختلطوا بفطنة وذكاء وتحاوروا بخجل وارتباك وأنشدوا قصائدهم بصوت خفيض ووجع عظيم في الحدائق والحانات والمقاهي وعلى عابري السبيل؛ منهم من سيطر سحر الشعر على كل منافذ قوته وإرادته فصار يأكل فوق أيام الإجازة السبعة ساعات بادئ الأمر ثم أصبحت أياماً حتى صار في مأزقٍ من الوله الشعري الذي يسكنهُ، فخنادق الحرب تدعوه للالتحاق والشعر يتربص به ويستعر في خلجان دمه وروحه؛ وسنوات الحرب تتراصف كحراب حول نطاقه وتشلُّ حركة خطاهُ؛ ومنهم من ركل الحياة الجامعية وصار يمتهن شتى الأعمال الحرة حتى يسدّ رمقه وعوزه ويكون بمنأى عن الدوام الصباحي والالتزامات، ومنهم من كان يحمل حقيبته ويغادر بوجع مهيض بحثاً عن موته في الجبهات. كان الثمانينيون في سريرتهم يحسدونَ الشاعر الستيني الذي يجلس على أريكة في مقهى حسن عجمي؛ يدغدغ حبَّات مسبحته وينظر بعين الزهو لقصيدة جديدة نشرتها لهُ الصحف الرسمية؛ فيما كان الشاعر الثمانيني يتمنى لو أنَّ المطابع في الجبهات ومقهى حسن عجمي في الحجابات؛ ومن هناك يحصي ساعات موته ويرسل بالبريد الملغوم بالقنابل وبيد الصديق الجريح قصائده النثرية التي لا تجد مأوى لها سوى سلة المهملات. ومع تعاظم القصف استفحلت قصيدة النثر على طول الجبهات، بينما الناقد الستيني الثمل يقترح تأجيل أماسي تموز لحرارة الطقس في نادي الأدباء؛ وهو لا يعلم أي جحيم يصطلي في جبهات الحرب؛ يا ويلي على قلوبهم العطشى لجرعة ماء في الملاجئ البعيدة؟ الشاعر الثمانيني يغرقُ بالأسى على قصائده المغطاة بالشظايا والتراب وأنين واستغاثة الجنود الذين نزفوا دماءهم هباءً، حين يستمع من المذياع وهو على برج دبابة إلى قصيدة تعبوية مليئة بالدخان المزيف والرصاص الخلب؛ إذْ أنَّ شاعرها الستيني في حقيقة الأمر كتبها في غرفة مكيفة لا يدخلها حتى زفير شوارع بغداد. في إجازته يدخل صديق الغجري إلى مقهى حسن عجمي، يسأل بلهفة غريب عن كمال سبتي وخزعل الماجدي وزاهر الجيزاني وعبد الزهرة زكي وسعد جاسم ووسام هاشم وصلاح حسن وعن صديقه الغجري ومحمد مظلوم والصائح وزعيم ومحمد النصَّار وهاشم معتوق ومنذر عبد الحر وخالد جابر، فيجيبهُ الشاعر الستيني بعيون شامتة أنَّ بعضهم عاد إلى الجبهة والآخر تجدهُ ينحبُ في الحانات؛ ويسأل من جديد عن صلاح زنكنه وعلي السوداني وشوقي كريم وحميد المختار وعبد الرضا الحميد فيخبرهُ ستيني آخر من طرف لسانه إنهم مازالوا في الجبهات؛ يجلس وحيداً والدمع يومضُ في عينيه ويتمنى في سرِّهِ لو يدخل إلى المقهى جواد الحطاب الآن؛ أو يلتقي بكزار حنتوش ليزيل الوحشة عنه؛ فيما يخبرهُ نادل المقهى أبو داود أنَّ جان دمو سافر لرؤية إبراهيم البهرزي في بعقوبة؛ هل يلتحق به إلى هناك؟ ربما في طريق العودة الآن، فجان دمو لا يطيق البقاء بعيداً عن حانات بغداد؛ يا إلهي ولا شاعر ثمانيني في المقهى فأين يلوذ صديق الغجري في هذا الظرف الحرج ومفارز الأمن والانضباطية تملأ شوارع بغداد.