الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
طقوس بغداد الرمضانية قبل قرن

بواسطة azzaman

أذن وعين

طقوس بغداد الرمضانية قبل قرن

عبد اللطيف السعدون

اعتاد توماس لييل رئيس السلطة القضائية في ادارة الاحتلال البريطاني للعراق في عشرينيات القرن الراحل أن يخصص ساعات من يومه للاختلاط بالناس العاديين، ومعايشتهم في حركتهم في الشارع، ومشاركتهم طقوسهم في أفراحهم وأتراحهم، ولعل هذه الخصلة لا يتمتع بها لييل وحده، بل أن معظم من قدر لهم أن يقدموا الى بلداننا في حملات عسكرية غازية، أو في بعثات تبشيرية، أو بمهمات استخبارية، أو ربما جاءوا للتجارة مع الشرق، أو للسياحة فيه والاطلاع على معابده وآثاره، معظم هؤلاء كانوا يجنحون الى عقد الصلات مع الفرد العادي، ومعرفة عاداته وتقاليده، وبعضهم سجل انطباعات، أو نشر كتبا عما لاحظه وتابعه.

واحدة من الظواهر التي استأثرت باهتمام لييل، ودفعته لأن يفرد فصلا خاصا في كتابه «المستور والمكشوف في بلاد ما بين النهرين»، ظاهرة الصوم لدى المسلمين والطقوس الرمضانية التي كان يمارسها الناس العاديون والتي تنعكس على مجمل حياتهم اليومية، وقد لاحظ أن الصائمين يصبحون أكثر كسلا وفتورا في عملهم في هذا الشهر، وتكثر حالة الانهاك لديهم كما تزداد حدة غضبهم وانفعالاتهم لدى مواجهتهم أبسط الأشياء، وأن مجرد مراقبة ما يحدث على جسم الانسان الصائم في وقت الصيف، عندما تصل درجات الحرارة الى مديات عالية، كاف للرد على بعض كتاب الغرب الذين زعموا ان الصوم في الشرق هو مجرد عملية استعراضية في حين أن الصائم يتحمل كل هذا طاعة لله ومرضاة له.

وفي زيارته لأحدى مقاهي بغداد الشعبية في رمضان يروي لنا ما شاهده عندما اقترب موعد الافطار حيث امتلأت المقهى بالصائمين الذين بدا عليهم الإنهاك والتعب، وهم يتجاذبون أطراف الحديث في الشؤون العامة من دون ان يسمحوا لأنفسهم بالشكوى أو التذمر.

عدد محدود

وبدا المشهد أكثر اثارة عندما سمع مدفع الافطار اذ شرع عمال المقهى بإحضار «استكانات» الشاي الى زبائنهم على عجل، وحيث ان عدد العمال كان محدودا فانهم لا يستطيعون تلبية كل الطلبات بسرعة، وقد يتأخر البعض عن الافطار من دون أن يكون هناك أي تذمر، وغالبا ما تكون عبارة «الحمد لله على شفاه الجميع، ومع أن الصائم يكون متلهفا لشرب الشاي الا انه قد يأخذ «الاستكان» بتأن، ويبقيه في يده للحظات دلالة على عدم ضجره من الصوم، ثم يتمتم بنبرة هادئة «بسم الله الرحمن الرحيم» قبل أن يرتشفه ببطء، وقد يلحقه بأول سيجارة أو أول ارتشافة من «النارجيلة».

لا حظ لييل أيضا أنه عند انتهاء رمضان وحلول عيد الفطر تظهر حالة تفجر عفوي للحيوية والنشاط لدى الناس الذين يبدون انهم متصالحون مع ذواتهم حيث يجدون أنفسهم فجأة وقد تحرروا من حالة الانضباط القاسي في كبح الملذات الصغيرة الذي فرضوه على أنفسهم طيلة شهر الصيام.

وكان قد ذهب، في الليلة الأخيرة من رمضان، الى إحدى القرى الواقعة على ضفاف النهر حيث كان الناس يتجمعون ليراقبوا ظهور الهلال، ولم يكن في استطاعتهم كتمان لهفتهم وهم يتطلعون الى السماء، يجوبون المكان على شكل مجموعات، وبعضهم يصعد الى السطوح ليكون بمقدورهم الرؤية على نحو أفضل، ومرت دقائق قبل أن يسود صمت مطبق اخترقته صيحة مفاجئة تنبأ بقرب لحظة ظهور الهلال، فيما كانت السماء متلبدة بالغيوم وهنا بدأ الجمع يتفرق، وعلى وجه كل واحد ملامح ارتياح مكبوت، وتدافع شيوخ معمرون وشباب وصبيان بالمناكب، وكأنهم يريدون الوصول الى مكان ما، وعلامات اللهفة بادية على وجوههم بأمل أن ينقشع الغيم عن بقعة من السماء كي يظهر الهلال فيها، وأخيرا ظهر الهلال خيطا رفيعا من الضوء تحيط به الغيوم، هنا هرول العديد ممن اعتلوا سطوح المنازل راجعين فيما تصاعدت صيحات « الحمد لله.. الله أكبر» من كل جانب مع قهقهات فرح ومسرة، وشرع البعض في اداء الصلاة غير عابئين بالصخب المتصاعد من حولهم، وسارع آخرون الى تبادل القبلات مهنئين بعضهم البعض بالعيد، ومن كان يحمل بندقيته أطلق الرصاص تعبيرا عن فرحته.

لم ينس لييل ان يشير الى أن تلك الساعات التي قضاها قي مشاركة العراقيين في مناسباتهم الدينية من أجمل الاوقات التي احتفظت بها ذاكرته


مشاهدات 525
الكاتب عبد اللطيف السعدون
أضيف 2024/03/16 - 12:22 AM
آخر تحديث 2024/04/27 - 8:33 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 430 الشهر 10568 الكلي 9136475
الوقت الآن
السبت 2024/4/27 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير