الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الهروب إلى الحرب..  أوربا بين فخّ السلطة وظلّ الحامي الأمريكي

بواسطة azzaman

الهروب إلى الحرب..  أوربا بين فخّ السلطة وظلّ الحامي الأمريكي

حسام البدري

 

تمهيد

يظهر الاتحاد الأوروبي اليوم كقارةٍ مسلّحةٍ بالكلمات والبيانات أكثر من تسلّحه بالمدافع والصواريخ؛ يتحدّث عن “الاستقلال الإستراتيجي”، بينما يختبئ عملياً تحت المظلّة الأميركية، ويُموِّل سباق تسلّح متأخّراً ومشوَّشاً ينهش من لحم بنيته التحتية ورفاه مواطنيه. وفي المقابل يطلّ ترامب بخطّةٍ من 28 بنداً لإنهاء الحرب في أوكرانيا، تُهدِّد، لو قُدِّر لها النجاح، بتقويض هذا “الحلم الأوروبي” في استمرار الحرب كذريعةٍ للبقاء في السلطة وإعادة تشكيل القارة جيو-سياسياً.

قارة بلا درع لولا واشنطن

بحسب بيانات الناتو الرسمية، فقد شكّلت الولايات المتحدة عام 2024 نحو 66٪ من إجمالي الإنفاق العسكري للحلف، أي ما يقرب من 997 مليار دولار، وهو ما يتجاوز — كما أكدت تقارير الحلف — مجموع إنفاق كل دول أوروبا وكندا مجتمعة. هذا وحده يكشف—كما تصرّح تقارير الخبراء—أن العمود الفقري للدفاع القاري يبقى أميركياً بامتياز.

وفي تقرير لوزارة الدفاع الألمانية، صُرِّح بأن البوندسفير لم يكن يملك عام 2022 سوى ذخيرة تكفي يومين من القتال المكثّف، بينما معيار الناتو يطلب مخزوناً يكفي 30 يوماً. كما أشار مركز أبحاث الصناعات الدفاعية الأوروبية إلى أن معظم الجيوش الأوروبية تفتقر إلى مخزون الذخائر والقدرات الصناعية اللازمة لتعويض الاستهلاك في أوكرانيا ضمن زمن عملياتي مقبول.

أما على مستوى الأمن الجوي، فقد تكفّلت التقارير الغربية بكشف ما حاولت القارة إخفاءه طويلاً: سماء بلا يقين، وحدود يَنفُذ منها الظلّ قبل أن يلتقطه الرادار.تفتتح فاينانشال تايمز المشهد بذكر حادثة هولندا: مسيّرات تُحلق فوق قاعدة فولكل، وإغلاق مطار إيندهوفن، في صورة تُشبه انكسار شفرة الأمان فوق نقطة تُعدّ من “أزرار الأعصاب” النووية.هنا تتلوّن السماء كصفحة تُكتب عليها هشاشةٌ لا يعترف بها الخطاب الرسمي.وتواصل لي موند كشف المستور فوق ألمانيا: مسيّرات تتسلل فوق منشآت حسّاسة، فتُسرع برلين إلى إعلان مركز دفاع جديد. لكنّ الصحيفة تلمح إلى ما هو أعمق: دولة تُشبه برجاً زجاجياً يلمع قوياً في النهار، لكنه يرتجف عند أول خفقةٍ لجسم بلاستيكي.وفي السياق نفسه، ترصد لي موند مسيّرات فوق قاعدة إلسنبورن البلجيكية؛ حادثة صغيرة في ظاهرها، لكنها—كما تقول الصحيفة—ثقبٌ في ستارة الأمن الجماعي، يظهر من خلاله ضعفٌ موزّع على كل قارات أوروبا لا على بلجيكا وحدها.ثم تأتي نيويورك بوست بتقريرها عن الدنمارك: مسيّرات فوق مطار كوبنهاغن، والحكومة تصفها بالأخطر على بنيتها الحيوية. هنا لا يبدو الخوف إدارياً، بل خوفاً وجودياً، كأن المطار لم يُخترق، بل كُشف أمام عين غامضة.أما السجلات البولندية فتضع القارة كلها أمام حقيقتها العارية: تسع عشرة إلى ثلاث وعشرون مسيّرة تعبر السماء البولندية في ليلة واحدة؛ مشهد لا يصف اختراقاً بقدر ما يرسم خريطة ضعفٍ طويلة تمتد من البلطيق إلى قلب القارة.وتُضيف وزارة الدفاع الرومانية مسك الختام: مسيّرة روسية تعبر الأجواء وتختفي، كأنها توقيعٌ عابر فوق صفحة الأمن الروماني. هنا، يبدو الشرق الأوروبي لا كجبهة، بل كمنطقة تُجرى فوقها تجربة الصدى قبل إطلاق الصوت.من ناحية التنقل العسكري، أشار ديوان المحاسبة الأوروبي إلى أن “القدرة على تحريك الألوية عبر أراضي الاتحاد ما زالت بطيئة وغير متوافقة”، حيث لا تستطيع بعض الدبابات عبور جسور دول أخرى بسبب قوانين الأوزان أو تدهور البنية التحتية.

سؤال جيو-أمني:هل يمكن لأوروبا بناء درع دفاعي مستقل فعلياً إذا استمرت الحرب؟أم تستمر في الارتهان للمظلّة الأميركية لعقود أخرى بسبب فجوة الجاهزية والقدرة الصناعية التي لا يمكن سدّها سريعاً.

جدارٌ متصدّع

بحسب معهد ستوكهولم الدولي للسلام SIPRI، تستحوذ الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية على 73٪ من صادرات السلاح العالمية خلال 2020–2024. وهذا يعني أن القارة — كما علّق تقرير المعهد — تملك “أكبر مصنع لتغذية النزاعات في العالم”، بينما تفتقر جيوشها ذاتها إلى الجاهزية الأساسية.وعلى مستوى الصناعة الدفاعية، قدّرت المفوضية الأوروبية أن الاتحاد يحتاج 500 مليار يورو إضافية خلال العقد القادم لردم فجوة التسلّح، في حين أن برنامج EDIP لدعم الصناعة الدفاعية لا يتجاوز 1.5 مليار يورو فقط، وهو ما وصفه ديوان المحاسبة الأوروبي بأنه “ميزانية لا تتناسب مع الأهداف المعلنة”.أمّا البنية التحتية المدنية — من الطرق إلى أنظمة الطوارئ — فقد حذّرت تقارير المفوضية من أن رفع الإنفاق الدفاعي في بيئة نمو ضعيف سيضغط على الاستثمار العام. بل إن وزارة الداخلية الألمانية نفسها أقرت بأن البلاد لا تمتلك شبكة ملاجئ كافية، وأن المواطنين قد يحتاجون لاستخدام أقبية المنازل ومرائب السيارات كملاجئ بديلة.

كما أشار ديوان المحاسبة الأوروبي إلى أن قطاعات الدفاع والإنفاق الأمني سجّلت أعلى نسب “الإنفاق غير المؤهَّل وضعف الالتزام بقواعد المناقصات”، وهو تعبير رسمي يعني عملياً وجود هدرٍ وسوء إدارة وفساد مقنّع.

سؤال جيو- إقتصادي- عسكري:هل يصبح الإنفاق الدفاعي الأوروبي عبئاً يطيح بالبنية المدنية ويخلق أزمات اجتماعية جديدة؟أم يدخل الاتحاد في دورة طويلة من الضغط المالي تُقوّض رفاه المواطنين وتُعيد إنتاج موجات شعبوية متصاعدة.

سلطة تغذّي الحرب

ترافق ًموجة التسلّح الأوروبية بنيةً سلطوية تحاول — كما قال محللون في مراكز الفكر الأوروبية — تحويل “التهديد الروسي” إلى رافعة سياسية تُبرّر كل شيء: من تأجيل الإصلاحات الاجتماعية إلى تضخّم الامتيازات السلطوية، مروراً بالترف السياسي الذي تحظى به النخب مقارنةً بالضغوط الاقتصادية التي يعاني منها المواطن العادي.

نخب اوربية

وتشير تحليلات سياسية إلى أن النخب الأوروبية تنظر إلى الحرب باعتبارها “أزمة مولّدة للسلطة”، أي أنها تمنح القادة التنفيذيين هامشاً أوسع لاتخاذ قرارات استثنائية، وتزيد من قدرة الحكومات على ضبط المجال العام، خصوصاً في الدول التي تعاني فعلياً من انقسامات داخلية أو تراجع اقتصادي.وتقارير معهد “بروغل” الأوروبي تذكر أن أوروبا تحتاج إلى 150 ألف جندي جاهز لردع روسيا، لكن معظم الجيوش غير قادرة على تحقيق ذلك خلال سنوات قصيرة. وهذا يعني أن الطبقة السياسية تعتمد على “عامل الخطر الخارجي” كأداة لإدامة النفوذ في وقتٍ لا تمتلك فيه أدوات الردع العسكرية اللازمة.سؤال جيوساسي : هل يمكن أن تتحول الحرب إلى مصدر شرعية دائم للنخب الأوروبية، حتى مع ضعف القدرة العسكرية الفعلية؟

أم يتحول هذا “الاستثمار في الخوف” إلى نقطة ارتداد تُفجّر ثقة المواطن في النخب، فتنهار شرعيتها عندما يتعارض خطابها مع ضعف الواقع العسكري.

وبحسب تقارير Axios، فإن خطة ترامب ذات الـ 28 بنداً لإنهاء الحرب تتضمن تنازلات إقليمية من كييف، وتقليص حجم جيشها، وضمانات بعدم الانضمام للناتو. كما وصف مركز CSIS الخطة بأنها “تمنح موسكو مكاسب استراتيجية دون ثمن”، مشيراً إلى أن بنودها “شبه مستحيلة سياسياً” على كييف.

لكن على الرغم من عيوبها، تُعدّ الخطة — كما قال خبراء أميركيون — تهديداً مباشراً للمشروع الأوروبي في تحويل الحرب إلى رافعةٍ لإعادة التموضع الجيوسياسي. إذ إن إنهاء الحرب بسرعة يُسقط الذريعة التي تستخدمها أوروبا لتبرير التسلّح، ويعيد النفوذ إلى واشنطن كلاعبٍ مُقرِّر.

معلقون أوروبيون وصفوا الخطة بأنها “قائمة أمنيات روسية في غلاف أميركي”، لكن خلف الاعتراض الأخلاقي تكمن خشية سياسية: أن يُنهي ترامب الحرب فيقوّض البنية السياسية التي بنتها أوروبا حول “الخطر الروسي”.

سؤال استشرافي: هل يمكن أن تنجح خطة ترامب في إعادة تشكيل توزيع النفوذ بين أوروبا والولايات المتحدة؟

أم يؤدي الصدام بين الطموح الأوروبي ومقاربة ترامب إلى إعادة رسم نظام أمني جديد تجعل فيه واشنطن من بروكسل تابعاً أكثر من كونها شريكاً.

خاتمة استشرافية

يتّضح أن أوروبا تقف بين قارةٍ تُسلّح العالم ولا تستطيع حماية نفسها، ونخبٍ سياسية حاكمة تطيل الحرب لتطيل سلطتها، ومواطنٍ يتحمّل عبء الإنفاق الدفاعي. في المقابل، يقدم ترامب مشروعاً يُعيد ترتيب لعبة النفوذ، وقد يقطع الشريان الذي تعتمد عليه أوروبا لبناء مشروعها الأمني. المسألة إذن ليست أوكرانيا فقط، بل مستقبل القارة وبنية السلطة فيها.

في الختام : إلى أين يتجه النظام السياسي الأوروبي إذا تعارضت إرادة واشنطن التراكمية مع مشروع الاتحاد الاوروبي الأمني؟

وهل سيجد الاتحاد نفسه أمام لحظة حسم: إما العودة إلى التبعية الأمنية، أو المجازفة باستقلال استراتيجي لا يمتلك له العدة ولا العتاد؟

 

 


مشاهدات 35
الكاتب حسام البدري
أضيف 2025/12/05 - 3:34 PM
آخر تحديث 2025/12/06 - 2:37 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 100 الشهر 3859 الكلي 12787764
الوقت الآن
السبت 2025/12/6 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير