بعد التصويت.. كل شيء هادئ في بغداد
ياس خضير البياتي
انتهت الانتخابات العراقية، وأُغلقت الصناديق أخيرًا، لكن أبواب الأسئلة ما زالت مفتوحة على مصاريعها. الشوارع أكثر هدوءًا من المعتاد، إلا من همهمات المراقبين الذين يراقبون الهواء السياسي نفسه بقلق.
الناس الآن بين من ينتظر النتيجة، ومن ينتظر الكهرباء ليشاهد إعلان النتيجة، ومن لا ينتظر شيئًا إطلاقًا لأنه حفظ النهاية مسبقًا. فكل أربع سنوات ندخل الصندوق بالأمل، ونخرج منه بنفس السؤال الأبدي: “من تتوقع يفوز؟”
الكثير من الأصدقاء والقراء يسألونني السؤال نفسه، وكأنني أملك “وحي المفوضية”: من تعتقد سيفوز؟
وأجيبهم دائماً بنفس الجملة التي تصلح لأن تُنقش على بوابة البرلمان: الوجوه القديمة لا تموت، بل تعاد فرزها فقط!
صحيح أن التصويت انتهى، لكن اللعبة الحقيقية لم تبدأ بعد. فالمقاعد ليست لمن فاز بالأصوات، بل لمن يجيد فن الجلوس على الكراسي المتحركة بين الكتل والتحالفات. النتيجة محسومة قبل أن تُعلن: محمد شياع السوداني سيكتسح الأصوات، لكن هذا لا يعني أنه سيعود إلى كرسي رئاسة الوزراء. ففي العراق، الفوز لا يعني الحكم، كما أن الخسارة لا تعني الخروج من المشهد. هناك دائمًا “إطار تنسيقي” يُعيد ترتيب الأوراق بما يناسب الجميع… ما عدا الشعب طبعًا!
وراء الكواليس، تدور معركة أخرى: الأمريكي يهمس، والإيراني يخطط، والتركي يتفرّج من بعيد منتظرًا حصته من الكعكة السياسية. المشهد أقرب إلى لعبة “شطرنج شرق أوسطية”، لكن الفرق أن بعض اللاعبين لا يعرفون قواعد اللعبة، والبعض الآخر يبدّل الأحجار كلما ضاق به الموقف.
وعلى الجانب الآخر من المسرح، يظهر محمد الحلبوسي، الذي لا يمل من العودة إلى الضوء. فهو الرقم البرلماني الصعب، الذي يجيد فن الظهور في الوقت المناسب. وكعادته، يبتسم بثقة العائد من الجولة الثامنة عشرة دون أن يُهزم بعد.
لكن خلف الستار الحقيقي، يقف نوري المالكي، الرجل الذي لا يغادر المشهد أبدًا، وإن لم يظهر في الصورة الأولى. يوصف بأنه «رئيس الدولة السرية»، وصاحب المفاتيح القديمة التي لا تصدأ مهما تغيّرت الأقفال.
لا يتكلم كثيرًا في الإعلام، لكنه يهمس في كل أذن سياسية، ويمسك بخيوط لا تراها الكاميرات. إنه الرقم الأقدم والأقوى في معادلة الحكم، وإن لم يظهر على لوحة النتائج الرسمية.
تشكيل الحكومة القادمة سيكون اختبارًا صعبًا، وربما أطول من موسم الأمطار. فهناك تسقيطات قضائية تنتظر بعض الأسماء اللامعة، وتحالفات ستتشكل على عجل لتتفكك على مهل. سيُستدعى شعار “المصلحة الوطنية” من المخزن مرة أخرى ليُغطّي على كل صفقة جديدة. الدول ستتدخل، المؤسسات ستتدخل، وحتى مواقع التواصل الاجتماعي سيكون لها رأي مؤثر أكثر من بعض الأحزاب الصغيرة.
سيقولون لنا قريبًا: “الخريطة السياسية تتغيّر”، بينما الحقيقة أن الخريطة لم تتغير منذ رسمها أول رئيس وزراء بعد 2003. فقط الألوان الباهتة أضيفت لها طبقة جديدة من الطلاء الانتخابي.
في النهاية، لا تتعب نفسك بالتحليلات والتوقعات. من سيحكم العراق ليس الفائز في الانتخابات، بل الفائز في معركة الكواليس، حيث تُصنع القرارات بعيدًا عن صناديق الاقتراع. أما الشعب، فسيواصل ممارسة دوره الوطني النبيل... في الانتظار.
الانتخابات انتهت، لكن اللعبة بدأت للتو. فمرحبًا بكم في الموسم الجديد من المسلسل التركي الطويل:
«الديمقراطية على الطريقة الشرقية – الجزء العاشر!»