إلى متى يتم إهمال العقول العراقية المهاجرة ويُستعاض عنهم بأصحاب الشهادات المزوّرة؟
وليد الحيالي
تُعدّ الكفاءات العلمية المهاجرة إحدى أهم الثروات التي يمتلكها العراق، لكنها للأسف ظلت لعقود طويلة خارج دائرة الاهتمام الرسمي، رغم ما يمكن أن تقدمه من خبرات ومعارف اكتسبتها في أرقى الجامعات والمراكز البحثية في العالم. لقد اضطر كثير من العلماء والأكاديميين العراقيين إلى مغادرة وطنهم نتيجة الاضطرابات السياسية أو غياب بيئة العمل المناسبة، فوجدوا في المهجر فضاءً يقدّر عطاءهم ويمنحهم الفرصة للإبداع.
وفي المقابل، شهدت مؤسسات الدولة العراقية بعد عام 2003 تنامي ظاهرة الشهادات المزوّرة أو غير المعترف بها، والتي أتاحت للبعض تسلق المواقع الوظيفية والعلمية من دون رصيد حقيقي من الكفاءة أو الخبرة. هذه الظاهرة ليست مجرد خلل إداري، بل هي مؤشر خطير على تراجع معايير الكفاءة في الاختيار، الأمر الذي انعكس سلبًا على جودة التعليم والإدارة والتنمية.
إن إهمال الكفاءات العراقية المهاجرة يعني خسارة مضاعفة: خسارة للعقل العراقي المبدع الذي يُسهم في نهضة بلدان أخرى، وخسارة لمستقبل الوطن الذي يفتقر إلى الطاقات القادرة على قيادة مشاريع الإصلاح والتحديث. بينما يفتح المجال أمام غير المؤهلين ليملأوا فراغات المؤسسات، فيتكرس ضعف الأداء ويتعمق الشعور بالإحباط لدى أصحاب الحقائق العلمية الرصينة.
التجارب الدولية تقدم دروسًا واضحة: فالهند والصين وكوريا الجنوبية نجحت في استعادة طاقاتها المهاجرة عبر برامج احتضان مدروسة، فانعكس ذلك مباشرة على نهضتها الاقتصادية والتكنولوجية. فلماذا لا يتبنى العراق سياسة واضحة لاستثمار خبرات أبنائه المنتشرين في المنافي؟ ولماذا يظل غياب التشريعات والآليات الفعالة حاجزًا أمام عودة هذه الكفاءات؟
ولكي يتحقق ذلك، فإن الأمر يتطلب خطوات عملية واضحة، في مقدمتها:
1. إنشاء هيئة وطنية مستقلة لتدقيق الشهادات ترتبط مباشرة بالقضاء، تعمل على كشف الشهادات المزوّرة ومحاسبة أصحابها ومن ساعد في تمريرها.
2. تفعيل التعاون مع الجامعات العالمية للتحقق من الشهادات والدرجات العلمية، ووضع قاعدة بيانات وطنية موحدة للتوثيق الأكاديمي.
3. وضع معايير شفافة للتعيين والترقية في الجامعات والمؤسسات، تعتمد على الإنتاج العلمي، الخبرة، والنزاهة، لا على الولاءات السياسية أو الحزبية.
4. إطلاق برنامج وطني لاستقطاب الكفاءات العراقية في الخارج، يتضمن حوافز مالية، وضمانات وظيفية، وبيئة بحثية تليق بخبراتهم.
5. تشجيع الشراكات بين الجامعات العراقية والمراكز البحثية الدولية، بما يتيح نقل المعرفة والخبرة من الكفاءات المهاجرة إلى الداخل.
6. ترسيخ ثقافة احترام العلم والكفاءة عبر الإعلام والمناهج التعليمية، لتنشئة جيل يرفض التزوير ويؤمن بأن التفوق ثمرة جهد حقيقي.
إن مستقبل العراق لا يمكن أن يُبنى على أسس رخوة، بل على قاعدة متينة من العلم والخبرة والنزاهة. ومتى ما أُعيد الاعتبار للعقل العراقي الحقيقي، ووُضعت حدًّا لظاهرة التزوير، عندها فقط يمكن أن نأمل بنهضة وطنية حقيقية.