الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
أحمد المهري مفكر وشاهد على التاريخ

بواسطة azzaman

أحمد المهري مفكر وشاهد على التاريخ

حسين سميسم

 

بحزن شديد ودعنا قبل أيام عالم جليل ومفكر نير، ودعنا السيد أحمد المهري، الذي انتقل إلى رحمة الله تعالى، تاركاً وراءه إرثاً معرفيا وذكريات عطرة مع أعلام عصره.

فقد عاش السيد المهري في قلب الأحداث التاريخية المفصلية التي شهدتها إيران، وكان له شرف المعاصرة والمرافقة للإمام روح الله الموسوي الخميني، ولم تكن هذه المعاصرة مجرد حضور زماني، بل كانت مشاركة فكرية وروحية عميقة معه ومراقبة عقلانية لولادة الأحداث الكبرى،وشهد معظم الوقائع التي شهدتها إيران .

كان السيد المهري في سنوات ما قبل الثورة من المقربين للسيد الخميني قبل الثورة وفي المنفى، وهو من الذين شهدوا تبلور الفكر الثوري الإسلامي وولادة فكرة ولاية الفقيه. وشاهد كيف انتقلت رؤية “ولاية الفقيه” في أذهان علمائها الى السياسة والميدان العام، وكيف تطورت على الأرض من نظرية فقهية إلى واقع سياسي غيّر مجرى التاريخ. هذه المرافقة الطويلة أكسبته فهماً عميقاً لا يمكن أن تنقله الكتب أو الوثائق، بل يحتاج إلى حضور شخصي ومعايشة روحية.

وبعد انتصار الثورة الإيرانية عام 1979، واصل السيد المهري علاقته الوثيقة مع السيد الخميني، شاهداً على التحديات الجسام التي واجهت الجمهورية الوليدة، من الحرب إلى الضغوط الدولية والداخلية. كان صوتاً حكيماً ينقل تجربة الثورة بصدق وموضوعية، بعيداً عن التطرف أو المجاملة.

مفكر مستقل الرأي

ما ميز السيد المهري عن كثير من معاصريه هو استقلاليته الفكرية وجرأته في طرح آراء قد تختلف عن السائد في الوسط الشيعي. وساهمت نزاهته وعدم طمعه بالمال ولا المناصب السياسية وانسانيته التي جعلته قريبا من الفقراء في التفكير الصريح والواضح والقول بما يملي عليه ضميره دون أن تتلقفه شباك الروايات والأفكار المسبقة، فلم يكن مقلداً أعمى، بل مفكراً نقدياً يزن الأمور بميزان العقل والنقل معاً. وقد اكسبه هذا الموقف المتوازن احترام المختلفين معه قبل المتفقين، فالحكمة تُعرف بأصحابها والفكر النير يضيء طريق الباحثين عن الحقيقة.لم تكن آراؤه في المسائل السياسية والفكرية مجرد اجتهادات شخصية، بل كانت نتاج دراسة عميقة ومعايشة طويلة للواقع الإسلامي المعاصر. كان يؤمن بأن الإسلام قد اكتمل وختم بوفاة النبي محمد ولا وحي ولا صلة وحيانية بعد النبي، وأن الاجتهاد المعاصر مطروح امام جميع الفقهاء سنة وشيعة ويجب أن يستوعب تحديات العصر ومتطلبات الحداثة والديمقراطية المتوافقة مع الإيمان الشخصي وغير المتناقضة مع مقاصد الشريعة دون أن يفرط في الثوابت الدينية العامة .

كان في حواراته ومناقشاته يدعو إلى فهم أعمق للتراث الشيعي، فقد نأى عن التعصب المذهبي الأعمى والطائفية، واقترب من الجوهر الروحي والأخلاقي للرسالة المحمدية، وفسر القرآن وتسلح بالفهم القرآني وأصبح ذلك ميزانه في قبول ورفض الآراء المختلفة ونبذ الروايات والعقائد التي تتعارض مع القرآن، ورفض رفضا باتا القول بامكانية المرجع والامام والنبي نسخ الايات الاقرٱنية, وتوصل إلى أن المذهبية ليس لها أساس ديني قرٱني، فقد بدأت من السياسة ويجب أن تنتهي فيها، خاصة وان معظم البلدان الإسلامية مثل إيران والعراق ودول الخليج تعيش فيها طوائف شتى من مذاهب إسلامية مختلفة وقد انتفى الدور السياسي القائم على اساس ديني او مذهبي، واسس مختبر الديمقراطية الاساس الصلد للتعايش بين مختلف الأديان والمذاهب، كان يرى أن الخلافات المذهبية هي خلافات ثقافية لاتؤدي الى الحروب والتصادم، ويجب ألا تحجب الأهداف الكبرى للإسلام في إقامة العدل والرحمة بين الناس.

تواضع جم

 كان معلماً بالفطرة، يحب نقل المعرفة والخبرة إلى الآخرين من اصدقائه ومريديه، فهم يشهدون على سعة علمه وتواضعه الجم، وكان لسان حاله يقول : “العلم أمانة، والحكمة هبة من الله، ومن واجبنا أن يتعلمها الناس بصدق وإخلاص. لكنه في نفس الوقت لم يكن صاحب تفكير تبشيري يسخره لأغراض شخصية، فقد امتلك من التجربة والتفكير العميق ذخيرة استطاع كشفها في مقابلاته العديدة واعلن عما توصل إليه من قناعات، ويقتنع من يسمعه للقول بأن من يريد الكتابة عن الثورة الايرانية وتطور الفكر السياسي الشيعي لابد أن ينهل من تجربته لأنها وثائق حية ، لم يكن باحثا تاريخيا لكنه شهد الأحداث ونقلها بحرفيتها واستنتج منها أن القرارات الكبرى بدأت بسيطة وارتجالية لم يتوقعها صاحب القرار نفسه الذي توقع تطبيق ولاية الفقيه يمكن ان يحدث بعد قرنين من الزمان، وتم الانتقال من فكرة الدولة الاسلامية الى الجمهورية الاسلامية في باريس ارتجالا دون بحث مسبق ودون معرفة بالنتائج المتوقعة، ولم يصل السيد الخميني إلى النتائج الفكرية لولاية الفقيه مرة واحدة، بل توصل إليها بالتدريج، وكان الارتجال والمواقف المختلفة والمستعجلة سيدة الموقف، فقد غير السيد الخميني فكرته عن ولاية الفقيه خمس مرات حسب قول رئيس الجمهورية السابق أبي الحسن بني صدر وتأكيد السيد احمد المهري، كان ضدها في إيران، وتبناها في العراق، وتراجع عنها في باريس، وتبناها في إيران، ثم تبنى في نهاية حياته ولاية الفقيه المطلقة، ويمكن الإشارة إلى أهم المحطات كما يلي :

شَبّهَ السيد الخميني الفقهاء قبل نجاح الثورة الإيرانية بالناصحين والمشرفين، وقال سيكون دوري في المستقبل الدور الذي أمارسه في الوقت الحاضر، أي دور الإرشاد والهداية .رفض السيد الخميني قبل انتصار الثورة الإيرانية تبوء منصب قائد الجمهورية الإسلامية الإيرانية ، فقد تبنى في فرنسا مبدأ حكم الشعب والجمهورية.أدرجت ولاية الفقيه في الدستور الإيراني في النصف الثاني من عام 1979 م، وشهدت المناقشات معارضة جدية، تدخل فيها السيد الخميني، وانتصر بالتالي وأدرج مبدأ ولاية الفقيه في الفقرة 110 من الدستور . وقال( ليست ولاية الفقيه أمرا ابتدعه مجلس الخبراء، إنها مسألة وضعها الله تبارك وتعالى .تبنى السيد الخميني في نهاية حياته مبدأ ولاية الفقيه المطلقة، وظهر ذلك في الدستور الجديد الذي أقر بعد وفاته، واستطاع الولي الجديد الحصول على هذا المنصب مدى الحياة ورد تعبير الولاية المطلقة للفقيه أول مرة في عام 1987م، وفي العام التالي أطلقت صلاحيات ولي الفقيه ولم يحددها، فهي من الأحكام الأولية المقدمة على الفرعية كالصلاة والصوم والحكومة.

 وهي شعبة من ولاية رسول الله ص المطلقة، وواحدة من الأحكام الإلهية للإسلام، وهي أوسع من تلك التي دونت بالدستور، وقبيل وفاة السيد الخميني بشهر واحد ألغى شرط المرجعية للولي الفقيه المذكور في المادة 107 من الدستور، وقال( لقد كنت مؤمنا منذ البداية ومصرا على أن شرط المرجعية في القائد غير ضروري، يكفي أن يكون مجتهدا عادلا يؤيده الخبراء المحترمون في كل البلاد) وتغيرت المادة الدستورية مباشرة لتناسب وضع السيد الخامنئي الذي أصبح الولي الفقيه بعد وفاة الخميني في عام 1989م ولم يبلغ مرتبة الاجتهاد، حيث أصدر أول رسالة عملية في عام 1995م .

وللسيد احمد المهري آراء عديدة في التقليد والنيابة عن المهدي المنتظر وحقيقة وجوده، وبين خلال لقاءاته أن الموقف الإيراني قبل وبعيد الثورة من أمريكا لم يكن بالشكل الذي رأيناه بعد فترة وجيزة من انتصارها . ولم يكن حصار السفارة الأمريكية من أفكار الثورة . وكان الموقف من مجاهدي خلق العدائي كان سابقا على انتصار الثورة . كما أن أخطاء شريعة مداري كانت سببا في موقف السيد الخميني منه، وهذه الشهادات تجعل المؤرخ يعيد نظره بما كتبه سابقا عن الثورة الايرانية .

اليوم نودع عالماً جليلاً ومفكراً حراً، رجلاً عاش حياته في خدمة االمعرفة، ولم يساوم على قناعاته مهما كانت التحديات. نسأل الله العلي القدير أن يتغمد الفقيد الراحل بواسع رحمته ومغفرته، وأن يسكنه فسيح جناته، وأن يلهم أهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان.

إن الموت حق على كل حي، لكن الأفكار النيرة والذكريات الطيبة تبقى خالدة في قلوب من عرفوها وتأثروا بها. السيد أحمد المهري رحل بجسده، لكن فكره وإرثه سيبقيان منارة للأجيال القادمة، تذكرهم بأن طلب العلم فريضة، وأن الحكمة تاج المؤمنين، وأن الاستقلال الفكري شرف لا يقدر بثمن.

تغمد الله الفقيد بواسع رحمته وأدخله فسيح جناته.

 


مشاهدات 85
الكاتب حسين سميسم
أضيف 2025/09/26 - 5:32 PM
آخر تحديث 2025/09/27 - 7:01 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 170 الشهر 19407 الكلي 12037280
الوقت الآن
السبت 2025/9/27 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير