الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
من المواطن إلى المقيم : أزمة الهوية السورية بين غياب الدولة وتحولات السيادة

بواسطة azzaman

من المواطن إلى المقيم : أزمة الهوية السورية بين غياب الدولة وتحولات السيادة

عاصم أمين

 

في لحظة مفصلية تُعاد فيها هندسة الشرق الأوسط انطلاقًا من مصالح قوى دولية وإقليمية، تتصدر الولايات المتحدة وإسرائيل مشهد إعادة التشكل الجيوسياسي لسوريا، بمباركة أنظمة اقليمية تمارس المخاتلة في رؤيتها السياسية في الدولة السورية وعلى اعتبارها عبءٍ يتعين التخلص منه أو تحييده وافشال اي مشروع  ديمقراطي متعدد . في هذا السياق، يطرح سؤال الهوية السورية نفسه بإلحاح غير مسبوق: من هو السوري؟ وما المعايير والقيم التي تُحدّد الانتماء إلى هذا الكيان؟ هل ما زالت اللغة، الايديولوجيا، الأرض، أو الذاكرة التاريخية كافية لتعريف الهوية، أم أن الشروط قد انقلبت، ولم يعد الانتماء مقترنًا بقابلية الأفراد للانخراط في معادلات سياسية فوق-وطنية، تفصل الإنسان عن موقعه الفاعل وتجعله كائنًا هامشيًا في سيرورة تقرير مصيره؟

ما نشهده اليوم هو انبثاق كيان سياسي جديد لا يستند إلى الدولة بمفهومها الكلاسيكي، ولا إلى عقد اجتماعي، بل إلى فراغ سيادي تنتظم داخله إرادات متضادة، خارجة في معظمها عن الإرادة الوطنية. يتجلّى هذا الكيان بوصفه نظامًا وظيفيًا يُعاد إنتاجه لضبط التوازنات الإقليمية والدولية، لا لخدمة مصالح السوريين. لم يعد السوري المواطن، بالتالي، فاعلًا في دولته، بل مقيمًا في جغرافيا تحمل اسم سوريا دون أن تتيح له حق التقرير أو المشاركة. وبات الانتماء إلى الوطن مشروطًا بقابلية الانخراط في نظام سياسي لا يمثّله، بل يُقصيه، ويحوّله إلى موضوع خاضع لمعادلات تتجاوزه أخلاقيًا وسياسيًا.

إن إعادة التفكير في سؤال :من هو السوري؟ يفرض استدعاء المفاهيم الفلسفية والسياسية المرتبطة بالدولة والهوية السياسية الحديثة، وفي مقدمتها تصوّر الفيلسوف الألماني )جورج فيلهلم فريدريش هيغل) للدولة بوصفها التحقّق الأعلى للروح الموضوعية. فالدولة عند هيغل ليست فقط مجرد جهاز بيروقراطي أو أداة للإكراه القانوني، بل هي تجسيد للفكرة الأخلاقية في التاريخ. إنها كيان يسمو على الأفراد لأنه يعبّر عن إرادتهم الجمعية، ويمنحهم المعنى الحقيقي لوجودهم بوصفهم مواطنين.

 المواطنة، وفق هذا التصوّر، ليست "حالة قانونية" فحسب، بل فعل انخراط في الإرادة العامة عبر مؤسسات الدولة، حيث لا يُفهم القانون كقيد مفروض من الخارج، بل كمظهر من مظاهر الحرية المتحققة ضمن نسق أخلاقي تشكّله الدولة.

غير أن هذا التصوّر يصطدم بحالة النفي الشامل التي يعيشها السوري المعاصر. فالمواطنة بما هي انتماء حر إلى كيان سياسي أخلاقي، قد انهارت. لا المؤسسات تعبّر عن الإرادة العامة، ولا القانون يحقّق شروط العدالة، ولا القرار السيادي ينبع من الشعب. السوري اليوم، في معظم حالاته، لا يعيش داخل دولة، بل ضمن مناطق نفوذ متنازعة، تحكمها سلطات الأمر الواقع، وتُدار من خارج الإرادة الجمعية، سواء عبر الاحتلال المباشر أو بالوكالة، أو عبر شبكات ولاء تُنتج الزبائنية بدل الشرعية.

المواطن السوري موجود قانونيًا بصفته حاملًا لجنسية، لكنه مغيّب سياسيًا، لا يملك قدرة الفعل، ولا حتى حق الاعتراض.

وبينما يشترط هيغل لقيام الدولة أن تكون مجالًا تُمارس فيه الحرية بوصفها تحقّقًا للذات عبر القانون، فإن الواقع السوري يُظهر مفارقة عميقة: فالقانون لم يعد تجليًا لإرادة عامة، بل أصبح أداة لتكريس هيمنة قوى لا تعبّر عن المجموع، بل تخضع لمصالح متضادة تحكمها رهانات خارجية. أما المؤسسات بمختلف وظائفها واسباب وجودها، فقد أُفرغت من محتواها، إما بسبب الانهيار أو التبعية، أو لأنها باتت تخدم أغراضًا لا تمت بصلة إلى مشروع وطني. كما أن الإحساس بالانتماء إلى كيان سياسي جامع يتلاشى أمام تنامي الهويات الفئوية والطائفية والإثنية، التي حلت محل " المشروع الوطني الديمقراطي المدني المتعدد "، فتشظّى الشعور الجماعي وتحولت "سوريا" إلى لفظة جغرافية، لا دلالة سياسية أو أخلاقية لها في وجدان مواطنيها.

في ضوء كل هذا، يصبح مفهوم "السوري" مفارقاً لمضمونه. لم يعد الانتماء إلى سوريا مرادفًا للمواطنة، بل بات السوري مقيمًا في بلد يُعرّف سياسياً من خارجه. وحتى داخل هذا البلد، يعيش السوري حالة من التهميش الأخلاقي، حيث لا صوت له، ولا تمثيل، ولا قدرة على صنع مستقبله. فالدولة، "وفق تصوّرها الهيغلي "، يجب أن تكون أداة لتمكين الفرد من إدراك حريته، عبر الانخراط في نظام " قانوني تمثيلي "، لكن ما تُسمى او تُدعى الدولة السورية اليوم تحولت إلى كيان منفصل عن شعبه، مفرغ من وظيفته السياسية والادارية، وعاجز عن تجسيد الحد الأدنى من الشروط التي تجعلها دولة بالمعنى السياسي والفلسفي المعاصر.

لا يمكن اختزال الوضع السوري الانتقالي الحالي في توصيفات كلاسيكية من قبيل "الدولة الفاشلة" أو "الديكتاتورية". ما نحن بصدده يتجاوز ذلك إلى حالة من النفي السياسي لكيان الدولة نفسه، إذ لم تعد "الكيان السياسي السوري" تعبّر عن شعبه، بل بات ساحة لتصفية الصراعات، أو بالأحرى، لإدارتها دون أفق للحل. أصبحت سلطة الامر الواقع الحالية أداة لإدامة التوازنات الإقليمية والدولية، وأضحت شبه المؤسسات مجرّد واجهات لا تنبع من الشعب ولا تُعيد إنتاج الشرعية، بل تُدار وفق منطق الهيمنة الخارجية والداخلية معًا. وحتى فكرة "الانتفال المرحلي السياسي "، الذي شكّل محورًا للحراك السياسي والعسكري بعد الفراغ الذي تركه نظام بشار الاسد، لم تعد كافية بوصفها هدفًا، إذ أن المشكلة لم تعد تقتصر على شكل السلطة، بل باتت تتعلّق بجوهر الدولة ووظيفتها وغائيتها.

إن الحاجة اليوم ليست فقط إلى إيجاد دستور شكلي، ولا إلى إعادة تدوير من يديرون السلطة، بل إلى استعادة الدولة الحديثة والمعاصرة والتي تناسب التنوع السوري، بوصفها تعبيرًا عن الإرادة السورية المتنوعة والمتعددة، ومجالًا للحرية، وضمانًا للكرامة الإنسانية. هذا لا يمكن أن يتحقق من دون "مشروع وطني سوري فدرالي " بامتياز، عابر للطوائف والإثنيات، يستند إلى قيم الديمقراطية و المواطنة، والعدالة، والسيادة، ويُعيد تعريف العلاقة بين الفرد والدولة على أساس التمثيل والمشاركة والمحاسبة. إن الشرط الأول لأي مشروع نهضوي هو الاعتراف بحق السوري في أن يكون فاعلًا، لا مجرد أداة و موضوع للقرارات الخارجية، وأن يمتلك القدرة على تقرير مصيره، لا بالمعنى الخطابي، بل من خلال مؤسسات حقيقية تعبّر عنه وتنبثق منه.

فقط عندما يُعاد بناء الدولة السورية الديمقراطية على أسس فلسفية وسياسية وأخلاقية تمكّن المواطن من أن يكون شريكًا حقيقيًا في صناعة القرار، يمكن القول إن السوري استعاد هويته السياسية. هوية لا تتأسس على الورق، ولا تُختزل في الجغرافيا، بل تتحقّق في الفعل السياسي، والكرامة الإنسانية، والانخراط الكامل في مشروع وطني اتحادي جامع. عندها فقط، يمكن القول إن سوريا قد استعادت نفسها وكُنْهها الحقيقية، لا بوصفها خريطة واحدة، بل بوصفها دولة فدرالية اتحادية ضمن كيان واحد.

 

 

كاتب وباحث  سوري


مشاهدات 40
الكاتب عاصم أمين
أضيف 2025/08/16 - 3:40 PM
آخر تحديث 2025/08/17 - 1:00 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 69 الشهر 11682 الكلي 11406768
الوقت الآن
الأحد 2025/8/17 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير