ذلك اليوم الذي أسدل ستار الحرب
هدير الجبوري
في الثامن من آب عام 1988، توقفت اصوات المدافع، وخفت صدى الانفجارات، وسكتت السماء عن صراخ الطائرات. كان ذلك اليوم اكثر من مجرد تاريخ على صفحة التقويم، كان لحظة فارقة انهت حربا امتدت لثماني سنوات، حرب انهكت البلاد، واستنزفت ارواح شبابها، وزرعت الحزن في كل بيت، وتركت على وجوه الامهات تجاعيد سبقتها اعمارهن بعقود.
ثماني سنوات من الموت المتربص على الحدود، ومن قوافل الشهداء العائدة في نعوش ملفوفة بالعلم، ومن رسائل لم تصل، واحلام أنقطعت انفاسها عند خطوط النار. شعب باكمله ذاق مرارة الغياب، واعتاد على انتظار لن ينتهي الا بالفقد او بالعودة مكسورة الاجنحة. كانت الحرب طاحونة بلا رحمة، تطحن الارواح والاعمار، وتستنزف الخبز من الموائد، والضحكة من القلوب.
وفي ذلك اليوم، كان للصمت طعم اخر
صمت لم يكن صمت خوف، بل صمت فرحة وارتباك أمام حقيقة ان الحرب انتهت اخيراً وفي لحظات الاعلان، تغير المشهد في شوارع المدن العراقية، وكانها استفاقت من كابوس طويل. خرج الناس على عجل من بيوتهم، بعضهم يركض نحو الجيران ليبشرهم، واخرون يرفعون ايديهم الى السماء شاكرين، بينما كان الاطفال، الذين لم يعرفوا يوما بلا حرب، يحدقون في وجوه الكبار في حيرة، وكانهم يحاولون فهم معنى ان تتوقف البنادق.
امتلأت الازقة والاحياء بوجوه متناقضة الملامح؛ ابتسامات معلنة، ودموع غزيرة، وضحكات متقطعة يخنقها البكاء، وتراشق بالمياه بفرح كبير ، وزغاريد النساء اخترقت الهواء، لكنها كانت ممزوجة بآهات امهات انتظرن ابناء لن يعودوا، وبنظرات آباء فقدوا سندهم، وبأحضان اخوة بقيت ناقصة. حتى الهواء في ذلك اليوم الصيفي الحار كان مختلفاً، كانها تحمل عبق الحرية الممتزجة برائحة الغياب.
كانت الذكرى حينها لا تشبه اي حدث جاء بعدها، لانها حملت معها عبق زمن لا يمكن فصله عن مشاعر الناس. زمن الحب الحقيقي للوطن، وللاهل، وللاخوة، وللاحبة
زمن اللقاء النادر، والانتظار الاشد قسوة، انتظار الحبيب، والاخ، والزوج، والابن.
كان يوم 8/8/1988 علامة على انتهاء زمن الفقد، وبداية زمن آخر ما زال يحمل في طياته آثار الحرب.
اليوم، وبعد عقود، يبقى ذلك التاريخ محفوراً في الذاكرة الجمعية. لا تمحوه الايام، ولا تغير معناه الاحداث التي جاءت بعده. انه ذكرى نقية، منفصلة عن كل ما تلاه، ذكرى اليوم الذي انهى جرحا مفتوحا في جسد الوطن، حتى لو بقيت الندوب شاهدة على الثمن الباهظ الذي تم دفعه،
وبعض الذكرى لا تمحى، لانها ليست مجرد لحظة مضت، بل هي نبض حي في قلب الوطن، دمعة حبست طويلا ثم انهمرت، وجرح اندمل على مهل، ونسمة سلام جاءت بعد اعصار. سيبقى الثامن من آب مشعلاً في الذاكرة، يذكرنا اننا مهما طال بنا ليل الحرب، فان فجر السلام آت، حتى وان حمل في طياته طعم الفقد…
واخيراً أقول ان يوم انتهاء الحرب في
٨/٨/١٩٨٨ كأي يوم يمر في حياة كل واحد منا، وليس بالضرورة أن يراه الجميع يوما عظيماً أو أن يتفقوا على روعته. قد يشبه ذكرى زواج انتهى بالانفصال وربما بالمأساة، لكنه يظل حاضرا في الذاكرة مهما حاولنا نسيانه. وقد يكون كعيد ميلاد يراه البعض حدثا مؤلماً فيستقبله بكلمات مريرة ويكتب عنه بامتعاض : عدت يا يوم مولدي، عدت يا ايها الشقي..
اقول هذا لابناء الوطن الذين يتناحرون ويتجادلون بالكلمات والتعليقات في فضاء مواقع التواصل، بين مؤيد ورافض لتذكر هذا اليوم
انه يوم من أيام الذاكرة العراقية، لا يمكن محوه او تجاوزه، لانه ارتبط بحياة ابرياء أهدرت سدى في حروب لم تترك خلفها سوى الخسارات، على كلا الجانبين المتحاربين.