الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
صيف‭ ‬الفاو

بواسطة azzaman

صيف‭ ‬الفاو

قيس الدباغ

 

في‭ ‬أحد‭ ‬صباحات‭ ‬تموز،‭ ‬كنت‭ ‬أستقل‭ ‬سيارة‭ ‬أجرة،‭ ‬وقد‭ ‬وضع‭ ‬سائقها‭ ‬مكيف‭ ‬الهواء‭ ‬على‭ ‬أقصى‭ ‬درجاته،‭ ‬وهو‭ ‬يتمتم‭ ‬بكلمات‭ ‬فهمت‭ ‬منها‭ ‬تذمره‭ ‬من‭ ‬شدة‭ ‬الحر‭. ‬غاب‭ ‬فكري‭ ‬سارحًا‭ ‬في‭ ‬الماضي،‭ ‬وتحديدًا‭ ‬في‭ ‬صيف‭ ‬عام‭ ‬1987،‭ ‬كما‭ ‬تُسعفني‭ ‬ذاكرتي‭ ‬المتعبة‭ ‬الآن،‭ ‬حين‭ ‬كنا‭ ‬جنودًا‭ ‬نخدم‭ ‬في‭ ‬شبه‭ ‬جزيرة‭ ‬الفاو‭. ‬ولأضعكم‭ ‬في‭ ‬الصورة،‭ ‬سأصف‭ ‬لكم‭ ‬أرض‭ ‬المعركة‭: ‬مساحات‭ ‬شاسعة‭ ‬من‭ ‬المياه‭ ‬الضحلة‭ ‬شديدة‭ ‬الملوحة،‭ ‬تتخللها‭ ‬سواتر‭ ‬ترابية‭ ‬أقامها‭ ‬الجيش،‭ ‬تضم‭ ‬نقاط‭ ‬مراقبة‭ ‬ومزاغل‭ ‬رمي‭ ‬ومواضع‭ ‬للجنود‭ ‬أشبه‭ ‬بجحور‭ ‬الحيوانات‭ ‬البرية‭.  ‬

ضيفنا‭ ‬الدائم‭ ‬كان‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬الحشرات‭ ‬الطائرة‭ ‬الناعمة،‭ ‬يسميها‭ ‬أهالي‭ ‬البصرة‭ ‬‭*”‬البرغش‭”*‬،‭ ‬تدخل‭ ‬الأنف‭ ‬والأذن‭ ‬والفم‭ ‬دون‭ ‬استئذان،‭ ‬وتطير‭ ‬في‭ ‬مجموعات‭ ‬هائلة‭. ‬وقد‭ ‬أدركت‭ ‬القيادة‭ ‬العامة‭ ‬صعوبة‭ ‬الظروف‭ ‬هناك،‭ ‬وملوحة‭ ‬مياه‭ ‬الشرب‭ ‬في‭ ‬البصرة‭ ‬العزيزة،‭ ‬فأصدرت‭ ‬أمرًا‭ ‬بتخصيص‭ ‬لترين‭ ‬من‭ ‬الماء‭ ‬الصحي‭ ‬لكل‭ ‬جندي،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬استهلاك‭ ‬الفرد‭ ‬الطبيعي‭ ‬للماء‭ ‬في‭ ‬البصرة‭ ‬يفوق‭ ‬هذه‭ ‬الكمية‭ ‬بكثير‭. ‬والمأساة‭ ‬أن‭ ‬غالبية‭ ‬حصة‭ ‬الجندي‭ ‬كانت‭ ‬تذهب‭ ‬إلى‭ ‬خزان‭ ‬ماء‭ ‬خاص‭ ‬بالضباط‭ ‬لغرض‭ ‬الاستحمام‭ ‬اليومي‭!  ‬

يُخصص‭ ‬صهريج‭ ‬ماء‭ ‬يأتي‭ ‬يوميًا‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬محافظة‭ ‬البصرة،‭ ‬ماءٌ‭ ‬لا‭ ‬يُشرب‭ ‬إلا‭ ‬بصعوبة‭ ‬بالغة،‭ ‬مخصص‭ ‬للغسل‭ ‬والاستحمام‭ ‬فقط‭. ‬إذا‭ ‬نظرت‭ ‬يسارًا،‭ ‬تصطدم‭ ‬بلوح‭ ‬مرآة‭ ‬يعكس‭ ‬أشعة‭ ‬الشمس‭ ‬الحارقة،‭ ‬وإذا‭ ‬نظرت‭ ‬يمينًا،‭ ‬ترى‭ ‬لوحًا‭ ‬آخر‭ ‬مع‭ ‬مشاهد‭ ‬القصف‭ ‬المتبادل‭ ‬وفجوات‭ ‬هائلة‭ ‬من‭ ‬انفجار‭ ‬القذائف‭ ‬الثقيلة‭.  ‬

الأثقل‭ ‬أن‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬المبارك‭ ‬وافق‭ ‬ذلك‭ ‬الصيف‭ ‬في‭ ‬آب‭ ‬اللاهب‭. ‬كنا‭ ‬نفطر‭ ‬بتوقيت‭ ‬إذاعة‭ ‬الكويت‭ ‬لأن‭ ‬الفاو‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬الحدود‭ ‬الكويتية،‭ ‬فكان‭ ‬الإفطار‭ ‬الساعة‭ ‬‮٨‬‭:‬‮٤٥‬‭ ‬مساءً‭ ‬والإمساك‭ ‬الساعة‭ ‬‮٣‬‭:‬‮٤٥‬‭ ‬فجرًا،‭ ‬أي‭ ‬صيامًا‭ ‬لنحو‭ ‬‮١٨‬‭ ‬ساعة‭! ‬حتى‭ ‬غير‭ ‬المتدينين‭ ‬كانوا‭ ‬يصومون،‭ ‬ولا‭ ‬أدري‭ ‬السبب،‭ ‬ربما‭ ‬لأن‭ ‬عزرائيل‭ ‬كان‭ ‬يزورنا‭ ‬باستمرار‭.  ‬

لكن‭ ‬أصعب‭ ‬الظروف‭ ‬كان‭ ‬واجب‭ “‬الحجابات‭”: ‬الخروج‭ ‬ليلًا‭ ‬بمجموعات‭ ‬قتالية‭ ‬للمبيت‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬الحرام،‭ ‬قريبًا‭ ‬جدًا‭ ‬من‭ ‬العدو،‭ ‬مع‭ ‬حظر‭ ‬الكلام‭ ‬بصوت‭ ‬مرتفع‭ ‬أو‭ ‬التدخين‭ ‬أو‭ ‬النوم‭ ‬حتى‭ ‬الفجر‭. ‬عند‭ ‬خروج‭ ‬المقاتلين،‭ ‬تُؤخذ‭ ‬أسماؤهم‭ ‬الرباعية‭ ‬وعناوينهم،‭ ‬لأنهم‭ ‬يُعتبرون‭ ‬في‭ ‬عداد‭ ‬الشهداء‭ ‬أو‭ ‬الأسرى‭!  ‬

والأسوأ‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ذلك،‭ ‬نقل‭ ‬ضابط‭ ‬شرطة‭ ‬برتبة‭ ‬مقدم‭ ‬ليتولى‭ ‬أمر‭ ‬فوجنا‭. ‬وقف‭ ‬الرجل‭ ‬في‭ ‬مقر‭ ‬الفوج،‭ ‬دارت‭ ‬عيناه‭ ‬في‭ ‬الأفق،‭ ‬ثم‭ ‬صاح‭ ‬بأعلى‭ ‬صوته‭: “‬يا‭ ‬جماعة،‭ ‬أنا‭ ‬خدمتي‭ ‬كلها‭ ‬في‭ ‬الشرطة،‭ ‬وما‭ ‬أجيده‭ ‬هو‭ ‬تحرير‭ ‬محاضر‭ ‬السكارى‭ ‬في‭ ‬الملاهي‭ ‬ومحاضر‭ ‬اعتداءات‭ ‬البغايا‭! ‬لم‭ ‬أخدم‭ ‬يومًا‭ ‬في‭ ‬الجيش،‭ ‬فكيف‭ ‬أُسند‭ ‬إليّ‭ ‬إمارة‭ ‬فوج‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬الفاو؟‭!”   ‬أصيب‭ ‬الجنود‭ ‬بإحباط‭ ‬شديد،‭ ‬واتضح‭ ‬لهم‭ ‬أن‭ ‬النقص‭ ‬في‭ ‬الضباط‭ ‬وصل‭ ‬حد‭ ‬الاستعانة‭ ‬بضباط‭ ‬الشرطة‭! ‬وقبل‭ ‬وصول‭ ‬المقدم‭ “‬نوري‭”‬،‭ ‬سبقه‭ ‬‮٤٨‬‭ ‬منتسبًا‭ ‬شرطيًا‭ “‬تعزيزًا‭” ‬للفوج‭. ‬اتصل‭ ‬المقدم‭ ‬بآمر‭ ‬اللواء‭ ‬وكرر‭ ‬نفس‭ ‬الكلام،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الآمر‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬نقل‭ ‬الأمر‭ ‬لقائد‭ ‬الفيلق،‭ ‬وسُحب‭ ‬‭”‬نوري‭” ‬المسكين‭ ‬ليحل‭ ‬محله‭ ‬رائد‭ ‬مجند‭ ‬كان‭ ‬مدرسًا‭ ‬للاجتماعيات‭ ‬في‭ ‬التربية‭! ‬وللإنصاف،‭ ‬كان‭ ‬الرائد‭ ‬أكثر‭ ‬خبرة‭.  ‬

وبعد‭ ‬أيام،‭ ‬نُقلنا‭ ‬من‭ ‬الفاو‭ ‬إلى‭ ‬معارك‭ ‬نهر‭ ‬جاسم،‭ ‬فكان‭ ‬لسان‭ ‬حال‭ ‬الجنود‭: “‬ارجعونا‭ ‬للفاو،‭ ‬أرحم‭ ‬من‭ ‬نهر‭ ‬جاسم‭!” ‬الخاطر‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬له‭ ‬جاه‭ ‬عند‭ ‬الله‭.‬


مشاهدات 59
الكاتب قيس الدباغ
أضيف 2025/08/02 - 12:21 AM
آخر تحديث 2025/08/02 - 1:53 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 429 الشهر 1164 الكلي 11276250
الوقت الآن
السبت 2025/8/2 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير