في أحد صباحات تموز، كنت أستقل سيارة أجرة، وقد وضع سائقها مكيف الهواء على أقصى درجاته، وهو يتمتم بكلمات فهمت منها تذمره من شدة الحر. غاب فكري سارحًا في الماضي، وتحديدًا في صيف عام 1987، كما تُسعفني ذاكرتي المتعبة الآن، حين كنا جنودًا نخدم في شبه جزيرة الفاو. ولأضعكم في الصورة، سأصف لكم أرض المعركة: مساحات شاسعة من المياه الضحلة شديدة الملوحة، تتخللها سواتر ترابية أقامها الجيش، تضم نقاط مراقبة ومزاغل رمي ومواضع للجنود أشبه بجحور الحيوانات البرية.
ضيفنا الدائم كان نوعًا من الحشرات الطائرة الناعمة، يسميها أهالي البصرة *”البرغش”*، تدخل الأنف والأذن والفم دون استئذان، وتطير في مجموعات هائلة. وقد أدركت القيادة العامة صعوبة الظروف هناك، وملوحة مياه الشرب في البصرة العزيزة، فأصدرت أمرًا بتخصيص لترين من الماء الصحي لكل جندي، رغم أن استهلاك الفرد الطبيعي للماء في البصرة يفوق هذه الكمية بكثير. والمأساة أن غالبية حصة الجندي كانت تذهب إلى خزان ماء خاص بالضباط لغرض الاستحمام اليومي!
يُخصص صهريج ماء يأتي يوميًا من خارج محافظة البصرة، ماءٌ لا يُشرب إلا بصعوبة بالغة، مخصص للغسل والاستحمام فقط. إذا نظرت يسارًا، تصطدم بلوح مرآة يعكس أشعة الشمس الحارقة، وإذا نظرت يمينًا، ترى لوحًا آخر مع مشاهد القصف المتبادل وفجوات هائلة من انفجار القذائف الثقيلة.
الأثقل أن شهر رمضان المبارك وافق ذلك الصيف في آب اللاهب. كنا نفطر بتوقيت إذاعة الكويت لأن الفاو أقرب إلى الحدود الكويتية، فكان الإفطار الساعة ٨:٤٥ مساءً والإمساك الساعة ٣:٤٥ فجرًا، أي صيامًا لنحو ١٨ ساعة! حتى غير المتدينين كانوا يصومون، ولا أدري السبب، ربما لأن عزرائيل كان يزورنا باستمرار.
لكن أصعب الظروف كان واجب “الحجابات”: الخروج ليلًا بمجموعات قتالية للمبيت في الأرض الحرام، قريبًا جدًا من العدو، مع حظر الكلام بصوت مرتفع أو التدخين أو النوم حتى الفجر. عند خروج المقاتلين، تُؤخذ أسماؤهم الرباعية وعناوينهم، لأنهم يُعتبرون في عداد الشهداء أو الأسرى!
والأسوأ من كل ذلك، نقل ضابط شرطة برتبة مقدم ليتولى أمر فوجنا. وقف الرجل في مقر الفوج، دارت عيناه في الأفق، ثم صاح بأعلى صوته: “يا جماعة، أنا خدمتي كلها في الشرطة، وما أجيده هو تحرير محاضر السكارى في الملاهي ومحاضر اعتداءات البغايا! لم أخدم يومًا في الجيش، فكيف أُسند إليّ إمارة فوج في معركة الفاو؟!” أصيب الجنود بإحباط شديد، واتضح لهم أن النقص في الضباط وصل حد الاستعانة بضباط الشرطة! وقبل وصول المقدم “نوري”، سبقه ٤٨ منتسبًا شرطيًا “تعزيزًا” للفوج. اتصل المقدم بآمر اللواء وكرر نفس الكلام، فما كان من الآمر إلا أن نقل الأمر لقائد الفيلق، وسُحب ”نوري” المسكين ليحل محله رائد مجند كان مدرسًا للاجتماعيات في التربية! وللإنصاف، كان الرائد أكثر خبرة.
وبعد أيام، نُقلنا من الفاو إلى معارك نهر جاسم، فكان لسان حال الجنود: “ارجعونا للفاو، أرحم من نهر جاسم!” الخاطر كل من له جاه عند الله.