الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
هواجس تحت رداء أبيض

بواسطة azzaman

هواجس تحت رداء أبيض

جاسم العزاوي

 

ليست كل معركة تُخاض بالسلاح، فبعضها تُخاض بالرحمة

يولد كأي طفل بجسد رهيف وقحف رقيق يبكي ويضحك، نامياً يشاغب ويلعب، ثم يتميز بما لديه من ملكة نضج خلايا الدماغ وإنسانه؛ لينظر للأمور بعمق، ويحفظ الكلمات بسرعة، ويردد وينشأ مختلفاً عن أقرانه، ممارساً هوايته الأبدية.. القراءة والحفظ، مستقطباً الإعجاب، حيث تتجمع حوله الأعين؛ فهو الأذكى والأكثر إلتزاماً ووداعة.. يردد أبواه إنه طبيب مستقبلنا... يحاط بعناية وتشجيع ينعكسان مواظبة وجدية داخله وإنعزالاً ومعاناةً؛ لأنه يفكر متطلعاً الى المستحيل... تتوالى سنون الدراسة فيتراكم العلم والنصائح والإرشادات ومشاهدة سير المصاحبين والأساتذة .

تَوَسُعُ المداركِ لا يطور جانباً محدداً في الدماغ إنما الحاويات والحافظات.. لوزة وحُصَين ومخ ومخيخ، من المهاد وما تحته وفوقه من اليمين الى اليسار والخلف والأمام.. تبرز الشخصية بعاطفة وعقل ومشاعر وإهتمامات متميزة مغطاة بقطعة قماش أبيض رداءً لجسد قائم الذات.. متحرك.. ناطق.. ينشر ضياءَ بهجةٍ وحكمةَ علمٍ، ويبعث التفاؤل بفرحة الأمل، لكن... ليس من دون ألم ومعاناة وكره وتطاول؛ فليس كل من يرتدي البزة البيضاء يصون حرمتها ويراعي قيمة محتواها؛ ولا كل من يراها يحترمها أو يحبها؛ فثمة لعنات تمطر إستهانة تؤدي الى تشويه متأتٍ من نظرة مسبقة، تراكمت جراء سوء أداء نماذج تمثل نفسها ولا تمثل الفئة التي تنتمي لها؛ إلا أن النظر تعم الجميع.. بداهةً.

«وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ؛ فَإِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا» ثمة أطباء مثاليون ما زالوا يعيشون رهن قسم أبيقراط، وآخرون ينوؤن بآثام موارة، تدفعهم الى الإنفلات من صراع الفجور والتقوى، مستسلمين لنوازع النفس الأمارة بالسوء، من دون أن يذهبوا الى «ما رحم ربي» الذي وسع كل شيء بربوبيته .

ليس كل ما يبدو هادئًا، ساكن من الداخل، ولا كل من إرتدى الصدرية البيضاء خالٍ من الصراع؛ فخلف نظرات الطبيب الحاسمة، وقراراته السريعة، وجمله الموجزة الباردة أحيانًا، تسكن هواجس لا تُرى، ومشاعر لا تُروى، عملاً بحكمة الإمام علي.. عليه السلام «ما كل ما يعرف يقال».

يرتبط الرداء الأبيض بالثقة والعلم والطمأنينة؛ ليخفي تحته قلبًا ينبضُ رحمةً، يضطرب حيرةً.. يتألم بصمت أشد من ألم المرضى نفسهم؛ فكم من قرار إتُّخذ تحت ضغط الزمن؟ وكم لحظةَ صمتٍ تخفي عجزًا أو دمعةً ساخنة إبتلعتها المهنية؟

«هواجس تحت رداء أبيض» ليست شكوى، بل بوحٌ عن إنسانٍ يحمل في يده سماعة، وفي قلبه عالماً من أسئلة وقصص.. إنها محاولة لإضاءة الزاوية التي قلّما يلتفت إليها أحد، الزاوية التي يقف فيها الطبيب إنسانًا، قبل أن يكون مهنيًا، لكن... من يواسي الطبيب حين يرهقه التعب؟ من يسمع أنينه حين يغلق باب العيادة ويخلع عنه قميص الإطمئنان؟ كم من مرة عاد إلى بيته مثقلًا بجراح لا يراها أحد، حزناً على مريض ودّ لو أنقذه ولم يستطع، أو من خبرٍ ثقيلٍ لم يجد له صيغةً تخفف وقعه على أهله؟

لا أحد يعلّم الطبيب كيف يحمي قلبه من التآكل البطيء، والإعتياد القاسي، والمسافة الباردة التي يفرضها الواجب بينه ومعاناة الآخرين، لكنه برغم كل ذلك، ينهض مرتدياً صدرية بيضاء دأباً على يوم جديد، يقابل خلاله ثنائية الحياة والموت بأعصاب فولاذية وقلبٍ متفائل ينبض أملاً؛ لأنه طبيب فطره الله على مواجهة الأمراض.. لا تهزمه تحديات المرض.

 


مشاهدات 68
الكاتب جاسم العزاوي
أضيف 2025/07/30 - 2:41 AM
آخر تحديث 2025/07/30 - 9:23 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 760 الشهر 20757 الكلي 11174369
الوقت الآن
الأربعاء 2025/7/30 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير