الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
عن مقابلة ابنة الرئيس

بواسطة azzaman

عن مقابلة ابنة الرئيس

علي شاكر

 

تعلَّمتُ ألا أتيح للآخرين معرفة كثير من التفاصيل عني، بدءًا من اسمي الذي قمت بتغييره، فالاسم والمعلومات الشخصية الأخرى كروائح الفرائس، لها القدرة على جذب الضواري الجائعة، وما أكثرها في مجالنا. كنت حريصة منذ البداية على إحاطة نفسي بالأخبار المُموَّهة، كما أتقنت اللعب على حبال الهوية حتى أني اشتهرت بخواتيم برامجي المستوحاة من حدث الساعة، فمرة أحمل صحنًا من التمر الذي وصلني من أخوالي في البصرة الحزينة، ومرة أخرى تنكة زيت زيتون بكر من فلسطين، أسكب قليلًا منه في صحن وأغمس فيه قطعة خبز، تحية لأهلي في نابلس المحتلة، وثالثة تبولة أولاد الأعمام المقاومين في لبنان، ورابعة كشري الأصهار الثائرين في أرض الكنانة، خصوصًا وأني أجيد التحدث بلهجاتهم جميعًا، وكنت أنسق أزيائي وإكسسواراتي وفقًا لآخر المستجدات عن الأوضاع في كل بلد، فأظهر بالحجاب أو النقاب حينًا، وبالكوفية حينًا آخر، بشيلات نساء الخليج وعباءاتهن مرة، وبتسريحات شعر معاصرة وفساتين مكشوفة في مرات كثيرة.

تعلّمتُ أيضا أن أقيم جدارًا عازلًا بين ضميري وعملي. لو لم أفعل ذلك ما كنت بلغت مكانتي المرموقة في عالم الأعلام التي أتاحت لي محاورة المشاهير من سياسيين وفنانين ورياضيين وسواهم من صانعي عناوين الأخبار. تحدَّثت أهم الصحف ومعظم وكالات الأنباء عن لقائي مع ابنة الرئيس الراحل، لكن كواليس ما حدث بيننا والصفقة التي أبرمتها معها لم يطّلع عليها أحد. البداية كانت عندما اتصَّل بي منتج برنامجي لإبلاغي برغبة الكبار بلفت الانتباه إلى الوريثة من خلال مقابلة أجريها معها، فاشترطتُ ألا يكون الأمر فجًّا، وأن يسمحوا لي بطرح بعض الأسئلة التي قد تبدو هجومية للحفاظ على مصداقيتي. عندما حصلتُ على الموافقة، أيقنتُ أن لحظة تنفيذ ما خطَّطتُ له منذ سنوات قد حانت.

كانت لي غاية أهم وأبعد من مجرد محاورة تلك التي صنعت لها ومن حولها وهمًا بأنها سليلة عائلة ملكية وانغمست في بذخ أمَّنته لها ثروتها الملوَّثة، اذ كنت أراها فرصة قد لا تتكرر لجنْيِ مكاسب هائلة بعد أن تجمَّعت لديَّ معلومات غاية في الأهمية والسرية عنها وعن تعاملاتها واتصالاتها. بطبيعة الحال، لم تكن إدارة المحطة تعرف شيئًا عن نشاطي الاستقصائي، فمجرد تصريحي بامتلاك مثل تلك المعلومات كان سيعرض حياتي للخطر، خصوصا واني حصلت على بعضها من خلال تجاذبي أطراف الحديث مع شخصيات فائقة الأهمية بعد انتهائنا من ممارسة الجنس.

حدث اللقاء الأول بيننا قبل عدة أسابيع من يوم التسجيل. توجهت الى قصرها المنيف وأنا على أتم الاستعداد للتعامل معها واحتواء غطرستها، فقد درستُ شخصيتها جيدًا، حديثها، لغة جسدها وردود أفعالها. تعمَّدتُ الوقوف بخشوع أمام لوحة ضخمة لوالدها تصدَّرت المدخل، وعندما لمحتُها قادمة، رفعت راحتيَّ وتظاهرت بقراءة الفاتحة على روحه، ثم صافحتها وأنا أترحم على الفقيد وأشيد ببطولاته. أشارت إليَّ بالتوجُّه إلى مكتبها الذي انتصبت خلفه سارية تدلَّى منها علم حريري كما لو كنا في مقر رئاسي. أفراد حاشيتها الذين أحاطوا بنا كانوا يعاملونها على ذلك الأساس، وقاموا بتقديم القهوة لنا في فناجين مذهَّبة حملت شعار حُكم أبيها. رشفت القليل من فنجاني وأنا أتأمل وجهها المنتفخ بفعل العمليات المتتالية. كان بوسعي تحديد الطبيب الذي أجرى لها الجراحة بحكم خبرتي، لكنني تجنَّبت التحديق إلى ملامحها طويلًا. وضعت القهوة على الطاولة ورجوتها أن نتحدث على انفراد، فاستغربت الأمر، لكنها أومأت إلى المتواجدين في المكتب بالانصراف.

كنت أحمل معي ملفًّا يضم نسخًا من المستندات التي حصلت عليها، لكنني حرصت على أن أقدِّم لها أولًا مسودة المواضيع التي سنتطرَّق إليها، فقرأتها وهي منتفخة الأوداج. عندما تأكَّدتُ من ابتلاعها الطعم الذي رميته لها، قلت لها إني شديدة الإعجاب بوالدها القائد الذي لن يجود الزمان بمثله، وإني كنت أود تكريس المقابلة للإشادة بمآثره لولا وصول وثائق إلى فريق إعداد البرنامج عن مسائل مثيرة للجدل، ارتأيت أن أعرضها عليها أولًا كي أتجنَّب إحراجها خلال الحوار.

ناولتها الصفحات تباعًا، وراقبت امتقاع لونها وهي تقرأ ما ورد فيها. سلَّمتها النسخة الأخيرة، فتناولتها بيد ترتجف من الغضب. ما ان انتهت من القراءة حتى تدفق من فمها سيل من البذاءات مع تهديد ووعيد بأنها ستجعلني أدفع ثمن وقاحتي وجرأتي على عرض وثائقي "المزوَّرة" عليها، وهي من هي، في تلميح إلى دموية أبيها في مواجهة خصومه وأنها لا تقل عنه شراسة وعنفًا. أشارت أيضا إلى علاقاتي السرية مع الأثرياء والمتنفِّذين، وهو ما كنت قد توقعته مسبقًا. طلبت منها أن تسميهم، فتلعثمت. كنت واثقة أنها لن تقوى على معاداة أو حتى مضايقة أيٍّ منهم. انتظرتها حتى صمتت تمامًا، ثم دعوتها إلى بحث سبل حل المشكلة.

لم يكن عندي أدنى شك في استعدادها لدفع مبلغ كبير من المال مقابل سكوتي، لكنها كانت ستناصبني العداء بقية حياتها، وكنت سأخسر بذلك زبونة مهمة تملك دائرة علاقات واسعة ومؤثرة. زعمتُ أن أحد محرري البرنامج حصل على المعلومات من قريب له يعمل مراسلًا لدى وكالة أنباء عالمية، وأن الأخير كان على وشك إرسالها إلى مديره، لولا تدخُّلي وطلبي مهلة نحاول خلالها لملمة الأمر الذي كان سيتسبَّب حتمًا بفضيحة مدوِّية، لن يفلح في لملمتها أي حوار ترقيعي أجريه معها. قلتُ لها إن بوسعنا العمل معًا لاحتواء الخطر وإنهاء الأزمة عبر توقيعها عقد مع مكتب العلاقات العامة الخاص بي، نتولى بموجبه تلميع صورتها وإطلاق حملات ترويجية لتوليها السلطة خلفًا لوالدها.

صارت الوريثة ورقة في يدي منذ تلك اللحظة، أستطيع مقايضتها لتحقيق أرباح أكبر بكثير من أي مبلغ كنت سأطلبه، كاستدراج زبائن جدد أكثر نفوذًا منها للتعامل معنا، وابتزازهم بوثائق وصور وتسجيلات كما فعلت معها، فأنا لا أتعاقد مع أشخاص أعجز عن السيطرة عليهم وتهديدهم بالفضيحة لو قرَّروا التمرُّد عليَّ. يجب أن يدرك الجميع أننا نبحر على ذات السفينة، وأن غرقها يعني فناءنا معًا رغم ان كل ما يتعلق بمكتبي وملكيتي له وزبائنه سري. الوريثة، على سبيل المثال، لا تعلم أن من بين زبائني وزراء ونواب برلمان ورجال أحزاب يناصبونها العداء ويسعون للإيقاع بها، وفي النهاية، قراري بمساندة أي منهم للوصول الى سدة الحكم تحدده حسابات الربح والخسارة، فولائي الوحيد لنفسي ولتنمية ثروتي ونفوذي.

*النص مقتطع من فصل "صاحبة المنبر" من كتاب  غرف سماوية: رواية؟ لعلي شاكر الصادر حديثا عن دار الثقافة الجديدة في القاهرة

 

 

 


مشاهدات 85
الكاتب علي شاكر
أضيف 2025/06/18 - 4:36 PM
آخر تحديث 2025/06/19 - 7:14 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 181 الشهر 12141 الكلي 11146795
الوقت الآن
الخميس 2025/6/19 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير