الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
رحلة العقل بين عبوديتين

بواسطة azzaman

رحلة العقل بين عبوديتين

فاروق الدباغ

 

مأساة العراق الثقافية ليست وليدة اللحظة، بل هي نتاج عقود متراكمة من تسليع العقل وتقييده. ففي الثمانينات والتسعينات، كان الخطاب الرسمي يُسخّر المدرسة والجامعة لتسويق القومية وإشعال العاطفة الوطنية، عبر ما عُرف بـ أدب المعركة وصور البطولات العسكرية. كان الطالب يُربّى على أن يصبح جنديًا قبل أن يكون باحثًا، وشعار الولاء يسبق سؤال المعرفة.

اليوم تغيّر المشهد ظاهريًا، لكنه في الجوهر لم يتبدّل كثيرًا. فقد انتقلنا من شعارات الحرب والقومية إلى شعائر الطقس والولاء. صارت الممارسات الطقسية تُقدَّم في ثوب أكاديمي، وتُساق كأنها فكر راسخ، بينما هي في حقيقتها أدوات لإدامة السيطرة على العقل الجمعي.

وليس أدلّ على ذلك من المناهج التعليمية نفسها: ففي كتب مقررة لطلبة الصف الرابع الإعدادي نجد فصولًا تحمل لغة عنف واستبداد وقمع، تُكرّس الطائفية وتُعلّق العنف كأنه جزء من الهوية. هكذا يُعاد إنتاج الطالب أسيرًا منذ مقاعد الدراسة، فيتشرّب الولاء قبل أن يكتشف معنى الحرية، ويتدرّب على الطائفية قبل أن يعرف معنى المواطنة.

بهذا، يكون التعليم العراقي قد استبدل راية الحرب براية الطقس، لكنه أبقى على الجوهر ذاته: إلغاء النقد، ومصادرة الحرية، وتحويل الطالب من مشروع إنسان حر إلى تابع أسير.

إن المشكلة ليست في الموروث القومي ولا في الموروث الديني بحد ذاته، بل في استخدامهما لتأبيد العبودية الفكرية. فقد ضاع العقل العراقي بين تجييش العاطفة بالأمس وتسويق الخرافة اليوم، وبينهما أجيال كاملة حُرمت من أن ترى في الجامعة مختبرًا للحقيقة لا منصة للدعاية.

ولأن الأمم لا تبنى على تكرار انكساراتها، فإن مسؤوليتنا تبدأ من تصحيح المنظومة القيمية، وإعادة الاعتبار للتعليم كفضاء للحرية والإبداع، لا كمنبر للولاء والشعيرة. يكفينا أن نظل أسرى لدوامة يتجدد فيها المشهد؛ وكما جاء في القرآن الكريم:

كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ]الأعراف: 38[

فإن العبودية الفكرية لا تزول، بل ترتدي ثوبًا جديدًا في كل عصر.

إن إصلاح التعليم ليس ترفًا، بل شرطًا لبقاء الوطن، لأن الأجيال القادمة لن ترث منا الأرض فقط، بل العقل الذي نفكر به، والمفاهيم التي نغرسها في قلوبهم.

 فالأمم التي لا تصحح فكرها، محكوم عليها أن تكرر سقوطها بأشكال مختلفة.


مشاهدات 60
الكاتب فاروق الدباغ
أضيف 2025/09/26 - 5:26 PM
آخر تحديث 2025/09/27 - 7:03 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 230 الشهر 19467 الكلي 12037340
الوقت الآن
السبت 2025/9/27 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير