الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
دفاعا عن الحداثة


دفاعا عن الحداثة

(ألا لا ألا الا لآليء لابــــــث

   ولا لا ألا الا لآليء من رحل)

- أمروء القيس-

سوران محمد

 

لا يخفى على أصحاب الضمائر الحية في الوسط الثقافي الجهود الحثيثة لأحياء التراث الشعري التقليدي (العمودي) العربي، وهذا عمل جميل يشکر عليها دعاتها، لکن احيانا ونتيجة للحرص الشديد فلربما يقع البعض في غلو وافراط، فكما انه سيء ومنهي عنه في الدين والسياسة والاقتصاد... فانه منبوذ و مؤذي في صنعة الأدب كذلك، كما ارشد النبي الكريم: هلك المتنطعون. ويأتي التنطع بمعاني التعمق والغلو والتكلف. لا داع ان نكتب عن دعمنا و حبنا لهذه المحاولات والجهود الفذة وخاصة اذا كان من قبل ناقد حريص و متخصص و      حتى ولو كان هذا الاهتمام خارج نطاق تخصص تحصيله الدراسي، لكننا في الجهة الاخرى تحرق قلوبنا عندما نرى من عند البعض المتحمسين، تبخس الآخرين أشياءهم، فهذا يضر كثيرا بالسمعة الثقافية و مستوى الأدبي والعلمي، ومع هذا علي أن أؤكد و أقول: ياليت كل الشغفوين في ميادينهم كافحوا و أجادوا مثلما هؤلاء المجيدين عليه في دربهم .

لو أردنا أن نكون منصفين علينا وضع الأمور في أماكنها واعطاء حقها ولاننكر الجميل لأحد، سعيا في سبيل نيل الحكمة والتزين بها، ومن الطبيعي ان السب والاستهانة والتوهين لا يزيد من الطين الا بلة، و السب بغير علم ينتهي بنتائج عكسية قد لا تحمد عقباها، كما انه ليس من شيمة الأصلاء و أناس أكاديميون. لا ينكر أحد منا فضل الشعر التقليدي و فنون بلاغته و جزالة لغته و قوة تصوره و رصانة تركيبه، بحيث لا يفهمه احيانا حتى النخبة الشعرية في عصرنا، كمعان لبعض الالفاظ المستخدمة فيها بدون الرجوع الى المعاجم، بل هنالك مفردات لا توجد حتی في المعاجم اللغة العربية قاطبة، مثل ألفاظ الصلندد وعشنصل والخ... فلعل تلك الجودة والبلاغة لهذه القصائد ترجع آنذاك الى اختزال الأدب والفن في الشعر فقط والتركيز الابداعي عليه وانشغال أصحاب المواهب به بعينه وتوظيف كل طاقات الفحول له في حين كان رأس المال الشاعر اللسان لاغيره، وهكذا خلدت صفحات التأريخ أصواتا لشعراء معينين (من بين ربما مئات بل ألوف) من شعراء بحور الشعر الخليلي لم نسمع بهم أبدا، هذا الكلام ينطبق على آداب الشعوب الاخرى كذلك، اذ ان الانفتاح التدريجي للعقل والعلم أثر بشكل ايجابي على ميادين عدة، من بينها الأدب والفن واللغة بعينها، اذ انها في حركة مستمرة نحو الانفتاح والتبسيط بدلا من التعقيد، ثم الأدب في عصرنا الحديث يتوسع أفقيا وعموديا  تزامنا مع  تنوع و توزيع الاهتمامات بين القصة والرواية والشعر والسينما والنثر والفنون السمعية والبصرية والمسرح والفنون التشكيلية....والخ، وهكذا تغيرت لغة الشعر من الاكتراث باستعمال ندرة الالفاظ و غريبها الى مصطلحات جديدة أكثر وضوحا و بمغزى أعمق وأفكار قوية ومعبرة، بالرغم من ان هنالك كلمات عفا عليها الزمن سواء في الكلام أو اللغة، فلم تعد تستخدم في سياق معين أو في العصر الحالي. مضيفا على ذلك ان لكل عصر أسلوبه اللغوي و التشكيلي، ولا عيب في هذا، كما يمكن طرح أفكار معمقة بكلمات غير معقدة أو غير مألوفة. مع كل هذا وذاك ان الابداع الشعري يضيء الدروب على مر العصور ويستقطب أحاسيس العشاق و وينجذب اليه قلوب المتهوسين بهذا السحر، مع عدم انكار لوجود كثير من الشعر الرديء في الضفة الاخرى، ولكل جمهوره و متابعيه حسب مستواهم الأدبي و ذائقتهم الشعرية. ان أسلوب الشعر الحر في زماننا قد احتل حيزا واسعا على خريطة الميدان الابداعي في الجنس الشعري عالميا، له فنونه و أركانه و بنيته وهو في انفتاح مستمر مع آفاق المستقبل وله أنواع عدة، فالخروج من البحور الشعرية أو الوزن والقافية لا يعني عدم الالتزام بقواعد فنون شعرية أخرى والخروج على مسار الابداع رأسا على العقب، اذ ان التأملات الفكرية والفلسفية مع تعدد التلميح  والمعان وخصوبة التخيل ورمزية اللغة والتنوع الاسلوبي و ابتكار صور شعرية متجددة تعتبر من سماتها البارزة. أما من حيث المضمون فهي تتناول قضايا العصر بدلا من الاكتفاء بالبكاء على الاطلال والغزل أو وصف السفر والترحال والهجو، مع وجود الوحدة العضوية في النصوص و توظيف الأسطورة و طرح النزعة البشرية مع تكثيف الايقاع والموسيقى واستخدام تقنيات متنوعة كالكولاج و التركيب واللعب على اللغة احيانا والغوص في عوالم الذات واللاشعور...الخ. فلا يمكن لأحد أن يجبر الآخرين على الالتزام بنمط معين من الشعر قراءة وكتابة، الا ان انتقاء هذا الصنف من الاصناف دون غيره من عند المتلقي يرجع الى عوامل عدة من بينها القريحة الشعرية عنده والتذوق الفني والثيمة الشعرية، فلا ضير ان نسبة أكثر من ٩٠% من قراء اليوم يميلون الى هذا الجنس من الشعر على الصعيد العربي والعالمي، ولايعني هذا عدم وجود قصائد رديئة جنبا الى جنب كما قد تحصل في كل حقبة تأرخية للأدب، لكنني أؤمن (ربما تتفق معي أو لاء) بأن الحداثة ليست كفرا ولا تعني رفضا للموروث، فكان من الأجدر بدلا من أن نطعن في أصحاب الاقلام الحداثوية أن نناهض و نقبح و نستنكر على الذين يمسكون بسياط الايذآء بدلا من الاقلام  لضرب أصحاب الأصوات الحرة و تكميم أفواههم و زجهم في زنازين دون وجه الحق. وبالتالي اذا لايعجبكم نص ما فلا مانع من أن تنقده بشكل أكاديمي و موضوعي كما لصاحب النص الحق في الرد والتبيان ان أراد ذلك، لكنني مطمأن بأن ألاسلوب الجارح يحتاج الى اعادة نظر جذرية و شاملة، كما ان الاعتراف بنتاجات و أبتكار الآخرين يعتبر فضيلة وليس نقصا وهو من صفات العلماء من العدل والورع، حتى ولو ان الآخرين لا يوافقونك في الفهم والتذوق الشعري والاسلوب الصياغي. كما لا استبعد ان يؤسر مشاعر المتزمت -عندما تكتشف أبعاد الاعمال الابتكارية- سحر هذه النصوص الحداثوية يوما ما، و لا عجب-.

فلأنهي كلامي بمثل رجل  يقول جدلا للآخر: لم تستخدم الجوال الذكي والحاسوب والدراجة...فانها من ثمار الحداثة وأنت تلعن الحداثة؟ فاذا به يرد: فان فكرة الدراجة مأخوذة من عربات الفراعنة وأما الأمور الاخرى ليست الا سفها وشطحات وخزعبلات لطمس أوجه حضارتنا العريقة! ومن بين تلك الأمور الاخرى أجناس الأدب الحديث والتي هي مرآة الحس الابداعي عند انسان العصر مع تعدد آفاق العلوم والاختراعات و تكاثر منصات وسائل النشر. وحري بأن الانسان بطبعه كامن فيه غريزة البحث عن الجديد والتغيير والتطور منذ الأزل.. لكنه من البديهي ان هذا الجواب للمتشدق بالحداثة لا يقنع أحدا!

ختاما لا يسعني الا ان أشكر المخلصين على سعة صدرهم لقراءة هذه الرؤوس الأقلام التي كتبتها فقط حرصا على الابداع وحبا في خدمة الكلمة الصادقة البناءة مواكبة ركب العصر.. متمنيا للجميع دوام الصحة والعافية ، منتظرا المزيد من العطاء المتميز الثري في ميدان الشعر والنقد والادب، دون الازدراء والمساس بالآخرين..


مشاهدات 59
الكاتب سوران محمد
أضيف 2025/09/17 - 3:05 PM
آخر تحديث 2025/09/18 - 2:12 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 67 الشهر 12379 الكلي 12030252
الوقت الآن
الخميس 2025/9/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير