الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
شهادة عليا بعد الرحيل

بواسطة azzaman

شهادة عليا بعد الرحيل

محمد عبد المحسن

 

إلى روح الصديق الراحل الحاضر خضير عباس الحداد، وإلى روح الشهيدة رغد سعدون

نوقشت في كلية الآداب بجامعة البصرة رسالة ماجستير للشهيدة الراحلة رغد سعدون التي لقيت حتفها في حريق هايبرماركت الكوت مؤخراً. هذا الحدث الذي يعبّر عن تقدير جهد من حرمه القدر من قطف ثمرة جهده العلمي أعاد إلى ذهني واقعة مماثلة وقعت قبل نصف قرن لصديق عزيز ظلّت وتظل ذكراه حاضرة في نفسي رغم تعاقب السنوات.

هو خضير عباس الحداد (رحمه الله وطيّب ذكراه)، عرفته ونشأت بيننا صداقة متينة في أواخر العام 1971 حين جمعتنا إحدى الوحدات العسكرية لنؤدي الخدمة الإلزامية، وكنت قد تخرجت في كلية القانون بجامعة بغداد وتخرج هو في كلية الإدارة بجامعة الحكمة (وهي جامعة أهلية ببغداد كانت الدراسة فيها باللغة الإنكليزية ، أسسها الآباء اليسوعيون القادمون من الولايات المتحدة في منتصف عقد الخمسينيات، وجعلوا مقرها في الزعفرانية ثم وضعت الدولة اليد عليها فيما بعد وأصبح مبناها مقراً لمعهد التكنولوجيا)، وصرنا نقضي كثيراً من الأوقات معاً، ما بين نزهات الشباب في بغداد السبعينيات الجميلة وبعض الرحلات القصيرة وحضور مباريات الكرة وسواها ، وكانت رفقته ممتعة بفعل روح مرحة كان يتميز بها إلى جانب معارف ثرية وخبرة كانت تبدو واسعة رغم حداثة سنّه . وفي خريف العام 1972 كان تسريحنا من الخدمة حيث التحقت بوظيفتي التي عينت فيها حديثاً ، وانصرف خضير إلى العمل الحر إلى جانب والده ، وقررنا في الوقت ذاته أن نشغل أوقات ما بعد العمل بالدراسة فتقدمنا بأوراقنا إلى الجامعة المستنصرية طامحين إلى دراسة اللغة الفرنسية في كلية الآداب فيها، وتم قبولنا  بالفعل وباشرنا دوامنا المسائي هناك (كانت الدراسة آنذاك بأجور وكان أجر الدراسة السنوي خمسة وأربعين ديناراً يدفع بثلاثة أقساط!) وكان هو يسعى في ذات الوقت إلى مواصلة دراسته العليا في الإدارة حيث تقدم بأوراقه إلى كلية الإدارة والإقتصاد بجامعة بغداد لهذا الغرض.

كان دوامنا المسائي فسحة للترويح مثلما كان وقتاً لتعلم لغة أجنبية حيّة أردت توظيفها فيما بعد للدراسة العليا في القانون، فكان يأتيني عصر كل يوم بسيارته الفولسفاجون (السلحفاة) لنذهب معاً إلى الكلية ويكون طريق الذهاب والأياب مليئاً بالمرح الذي يشيعه بروحه الطيبة؛ وهكذا حتى ظهرت نتائج القبول في الدراسات العليا وكان ضمن المقبولين فترك دراسته المسائية معي وتفرّغ لدراسة الماجستير في الإدارة، ومع هذا استمر التواصل بيننا كلما أتاحت ظروفنا ذلك.

في العام 1975 كان خضير قد أنهى متطلبات دراسة الماجستير وارتاح قليلاً من ضغوط المحاضرات والبحث دون أن يعلم ما يخبّئه له القدر، ففي أحد الأيام اتصل بي صديق مشترك وأخبرني أنه شاهد وهو مار عن بعد لافتة سوداء على سياج دار عائلة خضير لم يتبين محتواها، فسارعت إلى الذهاب إلى المكان لأطالع الخبر المفجع.. خضير في ذمة الله هو وأحد أشقائه بسبب حادث سير مروّع . ما أدقّ الحد الفاصل بين الحياة والموت.

بعد مدة ليست طويلة قرر مجلس الكلية مناقشة رسالته الجامعية على أن يقوم الأستاذ المشرف بالدفاع عنها، ثم نشرت الصحف تقريراً مصوّراً عن المناقشة وقبول الرسالة ومنحه الدرجة العلمية في واقعة كانت آنذاك سابقة محاطة بأجواء التأثر، ولا سيما بيننا نحن الذين عرفنا ذلك الإنسان الصديق الذي ظللت أشعر أنه حي يعيش معي.

رحمك الله يا خضير.

رحمكِ الله يا رغد.


مشاهدات 50
الكاتب محمد عبد المحسن
أضيف 2025/08/16 - 11:00 PM
آخر تحديث 2025/08/17 - 1:17 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 69 الشهر 11682 الكلي 11406768
الوقت الآن
الأحد 2025/8/17 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير