نداء الحكمة قراءة معاصرة في فكر إخوان الصفا .
نوري جاسم
في عمق التاريخ الفكري الإسلامي، تتجلى تجربة "إخوان الصفا وخلان الوفا" كإحدى أكثر المحاولات جرأة لدمج العقل بالوحي، والعلم بالإيمان، والفلسفة بالتصوف، في مشروع فكري موسوعي جامع لا يزال يثير الدهشة حتى اليوم، ولقد أراد أصحاب هذا العمل المجهولون في أسمائهم، المعروفون في رسائلهم أن يصوغوا رؤية شاملة للعالم والإنسان، رؤية تؤمن بأن الوصول إلى الحقيقة لا يتم إلا بانسجام العقل مع القلب، والمنطق مع الشريعة، والمعرفة مع الأخلاق، وانبثق فكر إخوان الصفا من بيئة كانت تعج بالتحولات السياسية والانقسامات المذهبية والصراعات الفلسفية، فكانت رسائلهم بمثابة نداء للنجاة من هذا التشظي، عبر دعوة خفية راقية إلى الوحدة الفكرية والروحية، ولم يتوجهوا إلى العامة، بل إلى أولئك الباحثين عن الحكمة، الراغبين في سلوك طريق الكمال، حيث مزجوا بين علوم الحساب والهندسة والفلك والموسيقى من جهة، وبين مباحث النفس والروح والموت والمعاد والنبوة من جهة أخرى، وكان ذلك كله مؤطرًا بروح صوفية شفافة ترى أن المعرفة وحدها لا تكفي، ما لم تتحول إلى سلوك وتزكية، ومن أبرز إيجابيات هذا الكتاب – أو هذه الرسائل – هو شموليته وانفتاحه المعرفي، حيث لم يتعصب الإخوان لمذهب معين، بل حاولوا جاهدين أن يجعلوا من فكرهم جسرًا يصل بين المذاهب والعلوم، متسلحين بثقة عميقة في العقل، دون أن يفقدوا ارتباطهم بالوحي. كما أن دعوتهم إلى التربية الأخلاقية، ونبذ التعصب، وبناء الإنسان الكامل، تعكس وعيًا عميقًا بحاجة المجتمعات إلى إصلاح داخلي قبل أي إصلاح خارجي، فهم يرون أن النفس البشرية قادرة على الترقي، إذا ما اتبعت طريقًا متدرجًا في التعليم والتزكية، يبدأ من العلم الحسي وينتهي إلى الفيض الإلهي، ومع ذلك، فإن النقد البنّاء لهذا المشروع لا يغفل بعض التناقضات التي قد تظهر في محاولتهم للتوفيق بين عقائد شتى وفلسفات متباعدة، ففي بعض الأحيان، تتجلى نزعة باطنية مفرطة قد تبتعد عن نصوص الشريعة الظاهرة، وتقترب من التأويلات الغامضة التي لا تنسجم دومًا مع المنطق الإسلامي السني. كما أن غموض الجماعة نفسها، وانغلاقها على النخبة، جعل مشروعهم محصورًا في دوائر محدودة، مما حال دون انتشاره على نطاق واسع في زمانهم،
ان وجهات نظرهم حول الكون والإنسان والدين تعكس طموحًا فلسفيًا راقيًا، فهم يرون العالم كائن حيّ منظم، والإنسان مرآة هذا العالم، حاملًا في داخله بذور العروج إلى السماء، والدين عندهم ليس مجرد طقوس، بل نظام أخلاقي وروحي، هدفه إصلاح النفس وربطها بالمبدأ الأول. أما النبوة، فهي عندهم ذروة الكمال البشري، حيث يتوحد العقل بالعناية الإلهية لإرشاد الناس إلى السعادة الأبدية، وأفكارهم حول المعرفة تشير إلى أن العلوم الطبيعية والرياضية لا تتعارض مع الإيمان، بل تؤدي إليه، وأن الفلسفة ليست خصمًا للوحي، بل خادمًا له. إنهم لا يفصلون بين العلم والعمل، بل يرون أن الإنسان لا يُعد حكيمًا حتى يظهر أثر علمه في أخلاقه ومجتمعه. بهذا المعنى، تتداخل رؤيتهم مع جوهر التصوف، وإن لم يسمّوا أنفسهم صوفيين. علاقتهم بالتصوف تتجلى في دعوتهم إلى التزكية، والخلوة، والمجاهدة، والصمت، والتأمل، وكلها مفاهيم مركزية في التجربة الصوفية، غير أن إخوان الصفا أضفوا عليها طابعًا فلسفيًا عقلانيًا، فجاء مشروعهم جامعًا بين روحانية التصوف ومنهجية الفلسفة. إن كتاب إخوان الصفا عمل موسوعي، ودعوة إلى إعادة بناء الإنسان، بالعلم والأخلاق والتأمل، في عالم تمزقه النزاعات. إنه مشروع حلم المدينة الفاضلة التي لا تُبنى بالجدران، بل تُبنى بالقلوب والأفكار والنيات. ورغم مرور أكثر من ألف عام على صدوره، فإنه ما زال حيًا في فكره، حاضرًا في أسئلته، ملهِمًا في طموحه إلى الكمال. إذا شئنا أن نستلهم من هذا المشروع اليوم، فعلينا أن نعيد قراءة رسائلهم بروح العصر، لا بنسخها كما هي، بل بفهم عميق لمقاصدها الكبرى، في التوفيق بين المختلفات، وفي السعي لإقامة جسور بين القلب والعقل، بين الدين والعلم، بين الأرض والسماء..
اللهم صل على سيدنا محمد الوصف والوحي والرسالة والحكمة وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ...