الشيوعيون يبكون أيضاً
نعيم عبد مهلهل
في أواخر عمر الجبهة الوطنية في العراق أواخر سبعينيات القرن الماضي صدر كراس عنوان (خندق واحد أو خندقان)، وربما كان هذا الكراس رصاصة الرحمة في رأس جبهة مزعزعة الأركان بين البعث والشيوعيين.
وبعيداً عن الأسباب التاريخية لقيامها وانهيارها أستذكر أصدقائي من الذين التحقوا بنا في ذلك المنفى الجميل الذي لا تنطبق عليه عبارة ناظم حكمت الشعرية: والمنفى يا حبيبتي مهنة شاقة.
لقد كان منفانا في عمق الأهوار في قرية (أم شعثة) جميلاً حين قادتنا الألفة العيش مع أهلها لنشعر بأن أرواحنا تكتشف شيئاً آخراً ومفيداً كلما طالت بنا سنوات الوظيفة في هذه المدرسة المكونة من سبعة صرائف ألحق فيها بيتاً من القصب هو سكن المعلمين.
في هذا المنفى كنا مع حياة الناس ، حتى أن بعضنا دخل دورات صحية ليصبح طبيب هذه القرية في مداواة جروح الأطفال حين تجرح قصبة أقدامهم العارية وهم يدخلون الماء ، أو يصاب أحدهم بسعال آتٍ من دخان ليل مواقد شتائهم.
بعضنا كان منتمٍ بصورة رسمية في الحزب الشيوعي والبعض ميولهم ناصرية أو قومية، واحد فقط معجب حد النخاع بسيد قطب، ثم تحول ليكون من جماعة الخالصي، وهو مرجع معروف في الكاظمية اشتهرت مرجعيته في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
وكان هذا المعلم الوحيد يأخذه العجب من مشاعر المعلمين ذوو الانتماء الشيوعي حين يرى آثار دمعة في أطراف أجفانهم يوم يجيئون بأحدهم شهيداً من جبهات القتال ، أو تفقد القرية طفلاً من تلاميذ مدرستنا غرق في إصراره على إعادة جاموسة عنيدة إلى زريبتها، ومرات يشارك المعلمون جميعهم حزن القرية يوم نقوم نحن في اليوم العاشر من محرم ببث تسجيل إذاعي من الراديو الذي معنا لمأساة اليوم العاشر بصوت الشيخ عبد الزهرة الكعبي.
وقتها يتندر المعلم ذو الميول الدينية ويهمس لي: إنهم يبكون ، أخشى أن تكون دموعهم دموع تماسيح.
قلت: عاطفة الشيوعي في قلبه؛ لأنه صاحب مبدأ.
قال: وقلبي أيضاً.
قلت: إذن احترم دموع الآخرين.
قال: وسأبقى أشك في دموعهم.
كان المعلم يراقب حماس المعلمين اليساريين وتسكنه حيرة عندما يتطوع أحدهم ليذهب إلى مدينة الجبايش من أجل جلب بطاريات الراديو حتى يستمر حزن عاشوراء.
وذات يوم قال في الإدارة ونحن مجتمعون على مائدة أتى بها عامل الخدمة شغاتي لنذر غداء العباس: الديوك حمراء ألا تبكون حزناً وأنتم تأكلونها.
قال أحدهم وقد كان يراقب بصمت كل ما يقوم به هذا المعلم من تعليقات: نحن نعتبر الإمام العباس (ع) ثورياً رائعاً.
قال المعلم المتدين: ولكن الإمام (ع) يعتبر ماركس ملحداً لأنه لا يعبد الله.
رد المعلم اليساري بغضب : ومن قال لك نحن لا نعبد الله.!
- إنجلز وماركس.
- أنت تفسر الأمر بفطرته وبقشرته، أنا فخور بماركس ، وأيضاً مؤمن وفخور بالأئمة الثائرين.
- وتبكي لمصيبتهم.؟
- نعم أبكي حين يتصاعد في سماعي تخيل اللحظة الإنسانية خلال موتهم.
- أنا متعجب.؟
- تعجب لوحدك هذا لا يهمني، دموعي لا تصنعها قشور البصل والثوم، بل يصنعها قلبي.
هرب المعلم المتدين من قوة الرد وقال مازحاً: إذن نظمني معكم.؟
قال المعلم: لا نريدك ابق فيما تؤمن فيه، واحترم بكائنا مثلما نحترم بكاءك.