الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
لكي لا تموت الحقيقة

بواسطة azzaman

أذن وعين

لكي لا تموت الحقيقة

عبد اللطيف السعدون

 

في غضون ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأولى حملت مجلة (تايم) على غلاف أحد أعدادها سؤال «هل ماتت الحقيقة؟»، وكانت ترمز من خلاله إلى كلام كثير لترامب اتسم بالتناقض وعدم الوضوح، قالت عنه المجلة أنه يجعل المرء يقع أسير وقائع ملتبسة في حقيقة ما كان يفكر فيه ترامب فعلا فيما كتب الباحث الأميركي في معهد ماساتشوستس لي ماكنتاير إن وقائع كهذه تشكل خطرا يهدد الوصول الى الحقيقة على نحو مخيف.  

نحن اليوم أمام حالة مشابهة، وإن اختلفت في التفاصيل، إذ أثار حديث للرئيس المصري جمال عبد الناصر في لقاء له مع صنوه الليبي معمر القذافي في آب/ أغسطس 1970 عن قبوله مبادرة روجرز في وقف إطلاق النار مع اسرائيل، والتوجه لحل سلمي جدالا واسعا على صفحات الصحف وعبر مواقع التواصل، وانقسم الناس اثره بين وجهة نظر وأخرى حيث فسر البعض حديثه بأنه «مناورة سياسية» أراد من ورائها كسب الوقت لتطوير القدرة العسكرية بخاصة في مجال إنجاز بناء حائط الصواريخ الذي وفر الغطاء لاحقا لحرب استعادة سيناء على عهد خلفه أنور السادات، فيما اعتبر آخرون ذلك تراجعا عما كان يطلقه من  شعارات التحرير والمواجهة، ورأى فريق ثالث أن القصد من ترويج حكاية الحديث وما فيها في هذا الوقت هو دعم مسار التطبيع الماثل اليوم على خلفية أن «زعيم القومية العربية» كان هو الآخر يضمر السير في طريق الصلح مع اسرائيل، وما فيش حد أحسن من حد!  ليس هذا العرض المبتسر هو كل الحكاية فقد وجد فريق رابع في رد ناصر على قيادات عربية زايدت عليه، واتهمته بالانهزامية والاستسلام محاولة لإعادة الروح لتلك القيادات، وتزكيتها كمدافعة عن فلسطين والفلسطينيين، والصاق وصمة الخيانة بعبد الناصر، وهو أمر لا يمكن القبول به في كل الأحوال.

وعلى أية حال فقد برزت خلال الجدال نقطة مهمة نبه لها نجله عبد الحكيم الذي قال ان والده «رجل دولة وليس زعيما حنجوريا كما يعتقد البعض (..)، ولم يكن مستعدا للتضحية بشعبه وبشباب القوات المسلحة مقابل زعامة وهمية». من نفس القماشة، ولكن بتوضيح أكثر، وردت شهادة سابقة لمحمد حسنين هيكل اللصيق بعبد الناصر، وعراب منهجه الفكري في أحاديثه عبر «الجزيرة» حيث قال «ان مصر كانت محتاجة الى مبادرة روجرز لنقل وتحريك الموقف الى نقطة جديدة، واستكمال ضرورات معينة (..)، وهناك توافقات دبلوماسية مع السوفيات (..)، وفي اللحظة التي تم بها قبول مبادرة روجرز كانت صواريخ جديدة تتحرك الى الجبهة». 

هدف ستراتيجي

هذا يكشف أن ناصر كان يتحرك في العمل بما هو ممكن مع عدم نسيان الهدف الاستراتيجي الذي يحتاج زمنا أطول، وتكلفة أكبر، وهو القضاء على إسرائيل، وعندما حاول القذافي حشر ناصر في زاوية حادة أشار الأخير في حديثه معه الى «مزايدات» حكام سوريا والعراق والجزائر الذين ظلوا مصرين على رفع شعار «تدمير إسرائيل، والقضاء عليها قضاء شاملا وكاملا»، متجاهلين أن «اللي ايده ف الميه مش زي اللي ايده بالنار»!

واستطرادا مع كل ما قيل ويقال، للوصول إلى الحقيقة، يمكن التمييز في الفترة الزمنية التي حكم فيها عبد الناصر مصر، والتي امتدت قرابة 18 عاما بين  مرحلتين، مرحلة ما قبل هزيمة حزيران 1967 التي ظهر فيها قائدا للمد القومي، مؤمنا بتحرير فلسطين «من النهر الى البحر»، و»لا صوت يعلو على صوت المعركة»، وبين مرحلة ما بعد الهزيمة التي تغير فيها العالم العربي ليصبح، بتعبير هيكل، «أمة تحت التأسيس»، ظهر فيها ناصر رجل دولة يدقق، ويستقصي، ويقرأ ما يحيط به، باحثا عن خارطة طريق عملية توصله الى إنجاز هدفه الاستراتيجي بسلام، وبأقل الخسائر، والتي ربما تستغرق عقودا وحسب ما يمليه الوضع الدولي، وما يقتضيه منطق القوة والقدرة، ويمكن رصد بداية هذه المرحلة مع إعلان لاءات مؤتمر الخرطوم «لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض»، والقبول بوقف إطلاق النار، ثم القبول بمبادرة روجرز، وهو ما وصفه هيكل بأنه «نقلة في السياسة، ونقلة في التفكير والوعي».

    ولكي لا تموت الحقيقة لا نرى بأسا من استدعاء التاريخ، وبعضه ما يزال جزءا من الحاضر، والتاريخ يقول لنا ان ناصر، ومع كل الأخطاء والخطايا التي شابت حكمه لمصر، كان لديه حلم، وكان يسعى لأن يصنع تاريخا جديدا لبلاده، وللعرب، وبحسب ماركس فان «الأفراد يصنعون التاريخ لكن ليس بالضرورة بالطريقة التي يختارونها»، وهذا ما حدث.

 

 

 


مشاهدات 50
الكاتب عبد اللطيف السعدون
أضيف 2025/05/10 - 1:13 AM
آخر تحديث 2025/05/10 - 5:09 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 327 الشهر 11576 الكلي 11005580
الوقت الآن
السبت 2025/5/10 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير