حسن النواب
هذه المرَّةُ أنا الذي يفصِّلُ ثوبَ القصيدة ويرتِّقُ جُرح الكلام،
أجلْ؛ أنا الذي وهبتُ الحروف جمراتٍ من اختبالي حتى تضيء،
ومواجعي مازالتْ صادحةً،
والشظايا ما فتئتْ تطعنُ أشجاني،
فكيف أقتنصُ الرؤى؟
أنا الذي لفظتني رحى الحربِ من حدائق الجحيم،
ثُم َّقالت:
هذه بلادٌ تسيَّدها الأسى، لو تعتقها؛
قلتُ: فتهرَّب المعنى من الكلام،
ثانيةً قلتُ: فتدفَّقَ الرمادُ من فمي؛
ثالثةً قلتُ ومضيتُ أقول حتى تلاشيتُ في العدم.
انحنيتُ؛ نعم أنا انحنيتُ،
على جُثَّةٍ تشظَّى فكرها في الوهاد؛
لكنَّ أصابعي خذلتني؛
وراحتْ تتلمَّسُ دموعَ الأمهات على بابِ المزارات؛
والدمُ المتوهِّج في دياجير الملاجئ.
ليس هناك سوى حطام يحاصرني،
حفَّزتُ بوصلة الروح للنشور،
فتكسَّرتْ أجنحة الأثير.
لا لغةً عندي؛ لا حيلةَ، لا خديعةَ،
لا دسائسَ، لا نفائسَ، لا مريداً، لا أنيساً، لا مغانمَ، لا أوهامْ،
لكني أمتلكُ نثراً يربكُ أقلامهم،
ويفسدُ زعافهم،
ويفضحُ زيف الدُعاة؛
الأقبية نصيبي والسلالم لغيري،
جسدي الطبيعةُ، والأرض خُفايَّ،
رأسي البريَّةُ وقبعتي السماء؛
هي ذي قراطيسهم الزائفة تغزو البلاد،
وسندس أحلامي نهبته مخالب الزناة؛
هل استعين بإبليس؟ ما جدواهُ؛ اللعنة مؤونتهُ،
ما جدوايَ الجوع زادي؛
فدلوُّني على أرضٍ عذراء ألوذُ بحجرها؛
لكي أغازل وحشتي وأرضع نور السراب،
دميةٌ صوتي وهم الأصابع والخيوط،
وأشتمُ الطير لو قال إنَّ السماء مُلكَ جناحي؛
وأباركُ هذي البلاد؛
لو قالت: إنَّ مدامع المضطهدين قناديلي؛
استغفرُ بالنخلِ وبيوت الطينِ؛
وقصب الأهوار ومسبحة جدي،
ودخان التنانير،
وأعوذُ من غلواء النثرِ وغوايته؛
وأصلّي لبلادٍ بلا فسادٍ؛
وألعنُ شظيةً تصطلي في رأسي؛
لا لغة ًعندي، لا أحقادْ؛
لا قدرة َلي أنْ أشيَّد المنائر،
وأقدامي في الوحلِ تغوصُ؛
تلك الرايات براقع الأمهات،
قمصان الشهداء، ثياب الطفولة،
والأهازيج تباريح في الصدور؛
والقصائد المنبرية؛
لا أقول غير إرثٍ لجوف الطبول،
ولأنَّ الشوارع عبراتي،
والأرصفة مناديلي،
صارت حنجرتي محراب تسابيح وابتهالات؛
ولأنَّ الهباب الذي أشمُّهُ لم يستعمر سوى رئتي؛
أبقى وحدي أختنق.
لكني مازالتُ هائماً في متاهاتي، والأسماء الحُسنى ترافقني؛
أهتفُ: أيها البرقُ لا تتبختر أنَّ وميضكَ مني،
ومواجعي صادحةٌ ونثري يستغيث.