الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الثورة‭ ‬والنظام

بواسطة azzaman

الثورة‭ ‬والنظام

محمد زكي ابراهيم

 

‭  ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬كنت‭ ‬أعجب‭ ‬كيف‭ ‬أن‭ ‬أحزاباً‭ ‬عربية‭ ‬ملأت‭ ‬الدنيا‭ ‬صخباً،‭ ‬وكان‭ ‬لها‭ ‬صولات‭ ‬وجولات،‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان،‭ ‬انتهت‭ ‬إلى‭ ‬سكون‭ ‬مطبق،‭ ‬وانفض‭ ‬الناس‭ ‬عنها‭ ‬بهدوء‭ ‬تام،‭ ‬وكأنها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬قائمة‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬الأيام‭.‬

‭ ‬كان‭ ‬الشبان‭ ‬يتقاطرون‭ ‬على‭ ‬مقراتها،‭ ‬ويتسابقون‭ ‬للفوز‭ ‬برضا‭ ‬زعاماتها،‭ ‬ويحلمون‭ ‬باليوم‭ ‬الذي‭ ‬يصبحون‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬القادة،‭ ‬يصدرون‭ ‬الأوامر‭ ‬ويتربعون‭ ‬على‭ ‬قمة‭ ‬هرم‭ ‬السلطة،‭ ‬وهم‭ ‬يعلمون‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬منوط‭ ‬بمقدار‭ ‬ما‭ ‬يبدونه‭ ‬من‭ ‬الانضباط‭ ‬والطاعة،‭ ‬وما‭ ‬يبذلونه‭ ‬من‭ ‬الجد‭ ‬والنشاط،‭ ‬وما‭ ‬يقدمون‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬التضحية‭ ‬والفداء‭.‬

‭  ‬لماذا‭ ‬ذوت‭ ‬هذه‭ ‬الأحزاب،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬امتلكت‭ ‬كل‭ ‬مقومات‭ ‬الذيوع،‭ ‬وهيمنت‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬زمناً،‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تتغير‭ ‬الموازين‭ ‬بهذا‭ ‬الشكل،‭ ‬وكيف‭ ‬تنقلب‭ ‬الأمور‭ ‬بهذه‭ ‬الطريقة،‭ ‬وكيف‭ ‬ينصرف‭ ‬الناس‭ ‬عنها‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كانوا‭ ‬لا‭ ‬يقبلون‭ ‬فيها‭ ‬إلاً‭ ‬ولا‭ ‬ذمة؟‭.‬

‭ ‬كانت‭ ‬الأحزاب‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬العهدين‭ ‬الملكي‭ ‬والجمهوري‭ ‬مهوى‭ ‬أفئدة‭ ‬الشباب،‭ ‬ومعقد‭ ‬آمالهم،‭ ‬وقد‭ ‬عرف‭ ‬عنها‭ ‬الحضور‭ ‬الواسع‭ ‬والانتشار‭ ‬الكبير‭ ‬والحرص‭ ‬على‭ ‬الإمساك‭ ‬بتلابيب‭ ‬السلطة،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬أياً‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأحزاب‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬مقعد‭ ‬واحد‭ ‬في‭ ‬مجالس‭ ‬نواب‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬2003،‭ ‬وقد‭ ‬حاول‭ ‬بعضها‭ ‬التحالف‭ ‬مع‭ ‬جماعات‭ ‬تتقاطع‭ ‬معه‭ ‬جملة‭ ‬وتفصيلاً‭ ‬للفوز‭ ‬بمقعد‭ ‬متواضع،‭ ‬فكان‭ ‬أن‭ ‬صفيت‭ ‬مقرات‭ ‬العديد‭ ‬منها،‭ ‬وغادرت‭ ‬الساحة،‭ ‬ثم‭ ‬توارت‭ ‬عن‭ ‬الأنظار‭ ‬بهدوء،‭ ‬أو‭ ‬انشطرت‭ ‬إلى‭ ‬أجنحة‭ ‬وتيارات‭ ‬لم‭ ‬تعمر‭ ‬طويلاً‭.‬

‭ ‬حتى‭ ‬الأحزاب‭ ‬الدينية‭ ‬التي‭ ‬أرعبت‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬حقبة‭ ‬ما،‭ ‬وقدمت‭ ‬عشرات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬الضحايا‭ ‬لم‭ ‬تنج‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المصير،‭ ‬فهي‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬الاحتفاظ‭ ‬بتماسكها،‭ ‬بعدما‭ ‬قيض‭ ‬لها‭ ‬الصعود‭ ‬إلى‭ ‬قمة‭ ‬الهرم،‭ ‬فتحولت‭ ‬إلى‭ ‬مجموعة‭ ‬أحزاب‭ ‬تتبادل‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بينها‭ ‬الجفوة‭ ‬والحسد،‭ ‬وتغمز‭ ‬من‭ ‬قناة‭ ‬بعضها‭ ‬البعض‭ .‬

‭ ‬يعتقد‭ ‬كثيرون‭ ‬أن‭ ‬سبب‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬هو‭ ‬فشل‭ ‬الأحزاب‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬أهدافها،‭ ‬فالنجاح‭ ‬يعني‭ ‬تلبية‭ ‬رغبات‭ ‬الجماهير،‭ ‬ولما‭ ‬كان‭ ‬الجميع‭ ‬قد‭ ‬أخفق‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاختبار،‭ ‬فمعنى‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬التراجع‭ ‬لم‭ ‬يستثن‭ ‬أحداً‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬التحليل‭ ‬ما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬الغلو،‭ ‬فالعديد‭ ‬منها‭ ‬تمكن‭ ‬من‭ ‬تسجيل‭ ‬إنجازات‭ ‬كبيرة،‭ ‬سارت‭ ‬بالبلاد‭ ‬من‭ ‬حال‭ ‬إلى‭ ‬حال،‭ ‬ومن‭ ‬أهمها‭ ‬قطاعات‭ ‬الإسكان‭ ‬والصناعة‭ ‬والنقل‭ ‬والتعليم‭ ‬والخدمات‭.‬

‭ ‬لكن‭ ‬الواقع‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الحركات‭ ‬انتقلت‭ ‬بمرور‭ ‬الوقت‭ ‬من‭ ‬طور‭ ‬التأسيس‭ ‬والعمل‭ ‬السري‭ ‬إلى‭ ‬طور‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬النشاط‭ ‬السياسي،‭ ‬وهو‭ ‬النظام‭. ‬ومن‭ ‬مرحلة‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬السلطة،‭ ‬ولم‭ ‬تلبث‭ ‬بعد‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬بدأت‭ ‬بالتخلي‭ ‬عن‭ ‬الروح‭ ‬الثورية‭ ‬التي‭ ‬قادتها‭ ‬إلى‭ ‬الواجهة،‭ ‬ومادتها‭ ‬الشباب‭ ‬الغض،‭ ‬فالأحزاب‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ (‬جنود‭) ‬يدافعون‭ ‬عنها،‭ ‬ولا‭ ‬يتوانون‭ ‬عن‭ ‬التضحية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬بلوغ‭ ‬أهدافها،‭ ‬وليس‭ ‬إلى‭ (‬مفكرين‭) ‬يكثرون‭ ‬من‭ ‬اللف‭ ‬والدوران،‭ ‬وإثارة‭ ‬الأسئلة،‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬مسوغات‭.‬

وغالباً‭ ‬فإن‭ ‬الأهداف‭ ‬التي‭ ‬يتوق‭ ‬لها‭ ‬العرب‭ ‬هي‭ ‬التحرر‭ ‬والاستقلال‭ ‬السياسي‭ ‬والوحدة‭.‬

والمشكلة‭ ‬تبدأ‭ ‬حينما‭ ‬يكبر‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشبان،‭ ‬وتنمو‭ ‬لديهم‭ ‬حاسة‭ ‬التفكير،‭ ‬وتفرض‭ ‬عليهم‭ ‬الظروف‭ ‬مراجعة‭ ‬الحسابات،‭ ‬فالإطباق‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬يجعل‭ ‬هذه‭ ‬الأحزاب‭ ‬تواجه‭ ‬التحديات،‭ ‬وتتفادى‭ ‬العقبات،‭ ‬وتدرك‭ ‬عجزها‭ ‬عن‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الهدف،‭ ‬فتشرع‭ ‬قواها‭ ‬بالتوقف،‭ ‬وأنشطتها‭ ‬بالجمود‭. ‬وتنقسم‭ ‬على‭ ‬نفسها‭ ‬شيعاً‭ ‬وأحزاباً‭. ‬وهي‭ ‬المقدمة‭ ‬المنطقية‭ ‬للضعف‭ ‬والاندثار‭.‬

‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬ننحى‭ ‬باللائمة‭ ‬على‭ ‬المجموعات‭ ‬التي‭ ‬انهارت‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الطريق،‭ ‬واعتزلت‭ ‬العمل‭ ‬السياسي،‭ ‬وآثرت‭ ‬الابتعاد‭ ‬عن‭ ‬الميدان،‭ ‬فهي‭ ‬قد‭ ‬اجتازت‭ ‬طور‭ ‬الثورة‭ ‬ووصلت‭ ‬إلى‭ ‬نقطة‭ ‬المنتهى،‭ ‬أي‭ ‬طور‭ ‬النظام،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬بإمكانها‭ ‬أن‭ ‬تواصل‭ ‬الحركة،‭ ‬أو‭ ‬تقدم‭ ‬المزيد،‭ ‬وهذه‭ ‬هي‭ ‬سنة‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الجزء‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬أقل‭ ‬تقدير،‭ ‬وليس‭ ‬ثمة‭ ‬ما‭ ‬يجعلها‭ ‬تنجو‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المصير‭ ‬المحتوم‭.‬


مشاهدات 49
الكاتب محمد زكي ابراهيم
أضيف 2025/04/25 - 5:48 PM
آخر تحديث 2025/04/29 - 4:40 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 726 الشهر 32808 الكلي 10913455
الوقت الآن
الأربعاء 2025/4/30 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير