كثيراً ما كنت أعجب كيف أن أحزاباً عربية ملأت الدنيا صخباً، وكان لها صولات وجولات، في كل مكان، انتهت إلى سكون مطبق، وانفض الناس عنها بهدوء تام، وكأنها لم تكن قائمة في يوم من الأيام.
كان الشبان يتقاطرون على مقراتها، ويتسابقون للفوز برضا زعاماتها، ويحلمون باليوم الذي يصبحون فيه من القادة، يصدرون الأوامر ويتربعون على قمة هرم السلطة، وهم يعلمون أن ذلك منوط بمقدار ما يبدونه من الانضباط والطاعة، وما يبذلونه من الجد والنشاط، وما يقدمون عليه من التضحية والفداء.
لماذا ذوت هذه الأحزاب، بعد أن امتلكت كل مقومات الذيوع، وهيمنت على السلطة زمناً، كيف يمكن أن تتغير الموازين بهذا الشكل، وكيف تنقلب الأمور بهذه الطريقة، وكيف ينصرف الناس عنها على هذا النحو، بعد أن كانوا لا يقبلون فيها إلاً ولا ذمة؟.
كانت الأحزاب الكبرى في العهدين الملكي والجمهوري مهوى أفئدة الشباب، ومعقد آمالهم، وقد عرف عنها الحضور الواسع والانتشار الكبير والحرص على الإمساك بتلابيب السلطة، غير أن أياً من هذه الأحزاب لم يستطع الحصول على مقعد واحد في مجالس نواب ما بعد 2003، وقد حاول بعضها التحالف مع جماعات تتقاطع معه جملة وتفصيلاً للفوز بمقعد متواضع، فكان أن صفيت مقرات العديد منها، وغادرت الساحة، ثم توارت عن الأنظار بهدوء، أو انشطرت إلى أجنحة وتيارات لم تعمر طويلاً.
حتى الأحزاب الدينية التي أرعبت السلطة في حقبة ما، وقدمت عشرات الآلاف من الضحايا لم تنج من هذا المصير، فهي لم تستطع الاحتفاظ بتماسكها، بعدما قيض لها الصعود إلى قمة الهرم، فتحولت إلى مجموعة أحزاب تتبادل في ما بينها الجفوة والحسد، وتغمز من قناة بعضها البعض .
يعتقد كثيرون أن سبب هذه الظاهرة هو فشل الأحزاب في تحقيق أهدافها، فالنجاح يعني تلبية رغبات الجماهير، ولما كان الجميع قد أخفق في هذا الاختبار، فمعنى ذلك أن التراجع لم يستثن أحداً.
وفي هذا التحليل ما فيه من الغلو، فالعديد منها تمكن من تسجيل إنجازات كبيرة، سارت بالبلاد من حال إلى حال، ومن أهمها قطاعات الإسكان والصناعة والنقل والتعليم والخدمات.
لكن الواقع أن هذه الحركات انتقلت بمرور الوقت من طور التأسيس والعمل السري إلى طور آخر من النشاط السياسي، وهو النظام. ومن مرحلة الدعوة إلى مرحلة السلطة، ولم تلبث بعد حين أن بدأت بالتخلي عن الروح الثورية التي قادتها إلى الواجهة، ومادتها الشباب الغض، فالأحزاب تحتاج إلى (جنود) يدافعون عنها، ولا يتوانون عن التضحية من أجل بلوغ أهدافها، وليس إلى (مفكرين) يكثرون من اللف والدوران، وإثارة الأسئلة، والبحث عن مسوغات.
وغالباً فإن الأهداف التي يتوق لها العرب هي التحرر والاستقلال السياسي والوحدة.
والمشكلة تبدأ حينما يكبر هؤلاء الشبان، وتنمو لديهم حاسة التفكير، وتفرض عليهم الظروف مراجعة الحسابات، فالإطباق على السلطة يجعل هذه الأحزاب تواجه التحديات، وتتفادى العقبات، وتدرك عجزها عن الوصول إلى الهدف، فتشرع قواها بالتوقف، وأنشطتها بالجمود. وتنقسم على نفسها شيعاً وأحزاباً. وهي المقدمة المنطقية للضعف والاندثار.
علينا أن لا ننحى باللائمة على المجموعات التي انهارت في منتصف الطريق، واعتزلت العمل السياسي، وآثرت الابتعاد عن الميدان، فهي قد اجتازت طور الثورة ووصلت إلى نقطة المنتهى، أي طور النظام، ولم يعد بإمكانها أن تواصل الحركة، أو تقدم المزيد، وهذه هي سنة الحياة في هذا الجزء من العالم في أقل تقدير، وليس ثمة ما يجعلها تنجو من هذا المصير المحتوم.