حُكم المحكمة الاتحادية العُليا بِحجب المَواقع الالكترونية التي تُخالف قِيم المُجتمع العِراقي أيَّانَ يُنفذ ؟
عماد يوسف خورشيد
معلوم ان ظُهور التكنلوجيا وتقنية المعلومات وتطورها الهائل ودخولها في تنظيم أغلب مفاصل الحياة؛ باتت تلزم الدولة بسلطاتها بالتدخل في تنظيم إستخدام التقنيات الحديثة، من قبل الناس، وخاصة بعد تراجع ملحوظ في الضبط الاجتماعي لدى البعض: كدور الاسرة، والتماسك الاجتماعي، والثوابت الاصولية بين بعض الناس، مما نتج عنه بزوغ ظواهر جديدة من الانحراف الاجتماعي ومنها: المحتوى الهابط المخل بالذوق العام، الذي يؤدي إلى خدش الحياء والذوق العام أو ما يخالف عادات واعراف المجتمع العراقي، والتي تُعرض على مواقع التواصل الاجتماعي في شبكة المعلومات الإلكترونية، ذات موضوعات مختلفة ولأغراض متباينة، ويكون مقدميها على الأغلب من الشباب الناشئين.
مضمون الحكم: أصدرت المحكمة الاتحادية العليا العراقية حكمًا حديثًا بالعدد 325/وموحدتها 331/اتحادية/2023، في 13/13/2024. والمنشور على الرابط الالكتروني الاتي :
https://www.iraqfsc.iq/news.5144/
جاء فيه "الزام وزارة الاتصالات ورئيس هيئة الاعلام والاتصالات إضافة لوظيفتيهما بحجب المواقع وشبكات المعلومات ( الانترنيت) وشبكات التواصل الاجتماعي وتطبيقات التواصل الالكتروني التي تتضمن ما يأتي:
التجاوز والمساس بالذات الالهية.
الاساءة إلى حرمة الكتب المقدسة بالاتلاف أو التدنيس أو غيرها.
التجاوز على الانبياء والرسل والرموز الدينية أو المساس بهم أو الاساءة اليهم.
الاساءة أو السخرية من الاديان أو المذاهب أو الطوائف أو احدى شعائرها سواء بالقول أو بالفعل أو بالإيماء أو تعطيلها عبر الدعوة إلى العنف والتهديد والابتزاز.
الاساءة إلى دور العبادة أو الاماكن المقدسة لدى جميع الاديان السماوية أو المذاهب أو الطوائف أو الطوائف.
الترويج أو التشجيع لإعمال السحر والشعوذة.
المحتوى الهابط الذي يؤدي إلى خدش الحياء والذوق العام أو نشر ما يخالف عادات واعراف المجتمع السليمة.
النشر والترويج للفسق والفجور والدعارة والبغاء والشذوذ الجنسي.
النشر والترويج للمواد المرئية والمسموعة والمصورة غير اللائقة التي من شانها الاساءة إلى قيم واخلاق المجتمع العراقي.
صناعة ونشر المقاطع الجنسية والايحاء بالإغراءات الجنسية المخلة بالاخلاق والآداب العامة.
الترويج للألعاب الالكترونية الجنسية أو التي تدعو إلى العنف أو الانتحار أو الكراهية سواء كان ذلك عن طريق البيع أو الشراء أو التوزيع أو العرض أو النشر.
الاعلان والترويج للمخدرات والمؤثرات العقلية.
التعرض للأخرين أو الاساءة اليهم باستخدام الالفاظ النابية أو التشهير أو السب أو القذف أو الاهانة باية وسيلة كانت.
نشر الصور ومقاطع الفيديو والتسجيلات الصوتية الخاصة دون إذن مسبق أو بقصد الاساءة.
تعليق على الحكم:
يعد القضاء الميدان الحيوي لحماية الحقوق والحريات الاساسية للافراد، ولمواجهة الافكار والسلوكيات التي تهدم قيم المجتمع العراقي وباستمراريتها تهدم نسيج المجتمع. ومن خلال النظر والملاحظة الدقيقة في حكم المحكمة الاتحادية يظهر انها توجه بعدم تقديم المحتويات أعلاه من قبل صانعي المحتوى الالكتروني، والزمت الجهات المختصة بمنع عرض مثل تلك المواقع على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل عام، وشبكة الانترنيت بشكل عام، والتي يتطلب جهودًا سريعة لِتطبيق الحكم أعلاه للحد من تفشي هذا الوباء الذي يهدد قيم المجتمع.
وهنا قد يتبادر في ذهن البعض تَّسَاؤُلَ مَفادهُ: أليس الحكم أعلاه هو تقيد لحق حرية الراي والتعبير عنه؟ وهنا نرتأي الاجابة على النحو الاتي:
بالاطلاع على محتوى الاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر عام 1948؛ يُلاحظ انه إحتوى على جملة من الحقوق والحريات الاساسية التي يتمتع بها كل انسان ومنها: حق إبداء الرأي والتعبير عنه، في المادة 19 منه، والتي نصت على انه "لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في إعتناق الآراء دون مضايقة، وفى التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين، بأية وسيلة ودونما إعتبار للحدود". والاتجاه ذاته في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية 1966 في المادة 19/2.
ومع ذلك، أكدت المادة 29 من الإعلان، والمادة 19/3 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على ان: حقوق الفرد وحريته لا يمكن تقيدها الا بناء على قانون، وان يكون هدف هذا التقيد ضمان الاعتراف واحترام حقوق وحريات الاخرين، وكذلك حماية للأمن القومي وإحترام الفضائل والنظام العام والادب العامة في المجتمع.
ولاحظنا في الدستور العراقي لسنة 2005 النافذ من ان المادة 38 منه نصت على أن "تكفل الدولة، بما لا يخل بالنظام العام والآداب:
أولاً : حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل.
ثانياً : حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر.
يتضح امامنا ان ممارسة الحقوق والحريات ليست مطلقة لا حدود لها، فممارستها لا يجوز ان تكون من خلال التضحية بغيرها من الحقوق والحريات. فحق التعبير عن الرأي لا يجوز ممارسته اعتداءً على الحق في الحياة الخاصة، والشرف والاعتبار. فالدستور العراقي أخذ براي التعبير عن الراي وفق ما أكدت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة في الإعلان والعهود الدولية التي أصدرتها. وتطبيقًا لمبادئ الدستور يحق لأي شخص ممارسة هذا الحق، ولكن بشرط ان لا يؤدي الى مخالفة نصوص القوانين الجنائية التي وضعت حماية لقيم المجتمع العراقي، فالحرية المطلقة ينتج عنا الفوضى وهو ما لا يرضاه أي عاقل.
وتأسيسًا على ما تقدم، ان مجلس القضاء الاعلى الموقر كان لها إلتفاتة حكيمة -حفاظًا على قيم المجتمع- من خلال تشكيل لجنة مشتركة عام 2022 لمكافحة (المحتوى الهابط) من خلال تقديم الشكوى والبلاغات إلى موقع (بلغ) والتي تم انشائها في موقع وزارة الداخلية الالكتروني (https://moi.gov.iq/?page=4611 ).
وفضلا عن ذلك، فان القضاء العراقي يجرم ( المحتوى الهابط) وفق المادة 403 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل النافذ. وبات مع ما تقدم نفي العذر من قبل الناس بعدم معرفة إطار المحتويات الهابطة والافعال المُخالفة لِقيم المجتمع.
وأكثر من ذلك، يتطلب تفعيل وتطبيق بنود الحكم اعلاه من قبل وزارة الاتصالات، وهيئة الاعلام والاتصالات بحجب المواقع ومنع البرامج التي تخالف قيم المجتمع وتؤثر على السلم المجتمعي، الى جانب المادة 5 من قانون شبكة الاعلام العراقي رقم 26 لسنة 2025، وهذا واجب وامانة يقع على عاتقهم، وعلى الجهات المعنية الاخرى في حماية قيم المجتمع.
حاصل الكلام: ان القيم الانسانية هي المحرك لسلوك الانسان، ولحمايته يتطلب تظافر جهود الدولة بمؤسساتها ومنها: هيئة الاتصالات من خلال تنفيذ فقرات حكم المحكمة الاتحادية العليا وحجب المواقع الالكترونية التي تهدم القيم الانسانية في المجتمع العراقي، والتي باتت تعرض على مواقع التواصل الاجتماعي وشاهدها أغلب افراد العائلة العراقية ان لم يكن كلها. وكذلك تفعيل الاسرة لدورها، والمدرسة والجامعات من خلال النصح بالتمسك بالقيم، واقامة الندوات والمؤتمرات، واعداد دراسات علمية في هذا المجال. وكان للقضاء الدور الحاسم لمواجهة ما يهدد القيم حماية للسلم المجتمعي -كما تبين- ونرى ضرورة قِيام المُشرع الجنائي العراقي بتكملة دوره الى جانب القضاء بتشريع قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات وتجريم ذلك وفق قواعد قانونية واضحة للناس كافة، ضمانًا لِحفظ القِيَم الانسانية، ولضمان لتطبيق مبدأ المشروعية الجنائية.
استاذ القانون الجنائي المساعد