الحراك الدبلوماسي الأخیر.. تقویم المسار وإنتشال العلاقات من واقعها المتأزّم
كاروخ خوشناو
من الملاحظ ان ما جری ویجري من احداث دراماتیكیة مشوبة بالقلق والحذر الشدیدین منذ ما یقرب العامین علی الصعیدین الداخلي العراقي - الكوردستاني والإقلیمي وكذلك الدولي، قد القت بظلالها وتبعاتها الثقیلة والمؤثرة الخطیرة علی كثیر من مفاصل الشؤون وفي شتی المجالات، وكان من مخرجات ومؤثرات ما أشرنا إلیه هو بروز وإصطفاف كثیر من القوی والأطراف والمجامیع ومن ثم إنضمامها الی المحاور الإقلیمیة والدولیة وبشكل علني، ذلك لم یكن مفاجئاً علی الصعیدین السیاسي والأمني نظراً لإرتباطات تلك الأطراف في الماضي وإستقطاباتها المذهبیة والآیدیولوجیة لصالح هذا المحور أو ذاك، إلاّ ان الواقع السیاسي والأمني العراقي المثخن بالتراكمات والأزمات الخانقة لا یدع أي مجال للشك بأن تعریض العراق أوجعله عرضة للتناحر و تقدیمه فدیة رخیصة لتصفیة سیاسات ومناطحات إقلیمیة خاسرة، إنما یرمي بكل ما تم بناءه علی مدی عشرین عاماً المنصرمة في آتون المجهول.
ان ما جری كان بالضد من منطق الامور والمضامین الدستوریة وكذلك الإتفاقات السیاسیة المبرمة بین الفرقاء والشركاء السیاسیین في البلاد، كما یتعارض مع صلب المنهاج الحكومي الذي اجمع علیه الجمیع و صادق علیه مجلس النواب.
همة العقلاء
لكن الذي كان دائماً وأبداً الموئل والأمل الأوحد للعراقیین بكل مكوناتهم العرقیة والدینیة هو علوّ صوت و همة العقلاء والحكماء في بلدنا وسعیهم الدؤوب المخلص من أجل إیجاد مخرجِِ كلما إشتدت الأزمات وإفتُعلت النوائب والمحن ضد أبناء العراق التواقین للحریة والعیش الكریم بعد ضیمِِ لئیمِِ دام لعشراتِِ من السنین.
ولكن عقارب الدستور والدیمقراطیة لا ترجع الی الوراء رغم عبث العابثین.
ان المتتبع للأحداث مؤخراً علی بینة من حقائق الامور و یری بأن حراكاً دبلوماسیاً كبیراً و متمیزاً قام به كلاً من السیدین نیجیرفان بارزاني رئیس إقلیم كوردستان الی طهران و محمد شیاع السوداني رئیس مجلس وزراء العراق الإتحادي الی الولایات المتحدة الأمریكیة، وكلتا الزیارتین كانتا من الأهمیة؛ حیث من دون حصولها كانت البلاد والعملیة السیاسیة برمتها والكثیر من تبعات وتعقیدات الملفات الأمنیة الشائكة متجهة نحو منحدرات خطیرة.الزیارة الرسمیة التي قام بها فخامة رئیس الإقلیم السید نیجیرفان بارزاني الی جمهوریة إیران الإسلامیة كان لها صدی دبلوماسیاً وإعلامیاً واسعاً و كبیراً جداً، حیث أشارت غالبیة عناوین الصحف الایرانیة و تصورات المراقبین الی الأهمیة التي حظیت بها الزیارة من قبل المسؤولین في طهران دون إستثناء و وصف تلك الصحف الرئیس بارزاني ب (سفیر السلام) لهو خیر دلیل علی أهمیة وتأثیر هذه الزیارة التأریخیة المباشر علی الدفع بواقع العلاقات بین الجانبین العراقي - الكوردستاني والإیراني و إیصالها الی مستویات افضل و أوسع، حیث جاءت الزیارة بعد فترة من الفتور و التأزم الحادّ بین أربیل و طهران، لكن دور السید السوداني الإیجابي البناء والمثمر علی حد وصف البارزاني قد ادی الی إنجاز و إنجاح الزیارة و كسر الجمود وإعادة بناء العلاقات وفقاً لمبدأ ضمان الفوز للجمیع سواسیة (win- win) لتخدم المصالح المشتركة فضلاً عن صیانتها و إدامتها، في الوقت الذي یشهد فیه العالم مرحلة عصیبة و منطقة الشرق الاوسط علی وجه الخصوص تواجه الكثیر من التحدیات الكبیرة تشمل كافة المستویات السیاسیة والأمنیة والإقتصادیة والدبلوماسیة.
تُعتبر زیارة السید نیجیرفان بارزاني الی الجمهوریة الإسلامیة إنعطافة تأریخیة هامة في العلاقات بین أربیل و طهران، حیث یمكن تصنیف العلاقات بین الجانبین الی مرحلة ما قبل هذه الزیارة و ما بعدها، نظرا لما لدی السید البارزاني من سیاسة مرنة ومتوازنة في خضم الأوضاع والأحداث المعقدة والمتسارعة التي تشهدها المنطقة عموماً، حیث من الصعب جداً حفظ التوازنات وضمان الإبقاء علی الاستقرار و عدم الإنجرار والوقوع في شرك المحاور المتصارعة، لكن النظرة السدیدة الثابتة والحیادیة المتوازنة والضامنة لحقوق و مكانة و مصالح الجمیع علی حدِِ سواء التي یتبناها الرئیس نیجیرفان، جعله مقبولاً من لدن الجمیع، رغم ان إقلیم كوردستان قد عانی الكثیر من الضیم و دفع ضرائب مجحفة جراء تبنیه لهذا النهج القویم كما تعرض أیضاً الی كثیر من الهجمات والتهدیدات الظالمة.
ان توجیه دعوة رسمیة للسید نیجیرفان بارزاني من قبل طهران دلیل علی ان المكانة الجیوسیاسیة والجیوستراتیجیة لإقلیم كوردستان تحظی بأهمیة بالغة في نظر الإیرانیین، كما ان الدور الذي یتمتع به كوردستان علی الصعید العراقي أیضاً یجعل طهران أن تضع هذه الموقعیة الفاعلة ل أربیل بنظر الإعتبار و تتعاطی معها بكل إیجابیة، لأن كوردستان هي الوحدة الفدرالیة الوحیدة في العراق، فضلاً عن دورها الایجابي في حفظ التوازن بین الطائفتین السنة والشیعة، كما تمثل كوردستان عماد حفظ النظام الفدرالي والمنظومة الأمنیة في العراق.
لهذا نقول ان الرئیس نیجیرفان بارزاني یستحق بجدارة لقب سفیر السلام والوئام لأن سیادته یتمتع بمقدرة دبلوماسیة فذة و مؤثرة علی المستویین الإقلیمي والدولي من حیث إعادة رسم التوازن و معالجة مكامن الخلل و تقریب وجهات نظر أطراف النزاع و بعد ذلك الإنطلاق نحو تخفیف حدّة الخلافات والمخاوف و تهیئة الأجواء وبناء الأرضیة المناسبة الكفیلة بتحفیز مختلف الأطراف للإحتكام والجلوس الی طاولة الحوار.
عين العاصفة
و بذات الأهمیة و من جانبِِ آخر و من أجل إخراج العراق و إبعاده عن عین العاصفة الهوجاء، جاءت زیارة السید محمد شیاع السوداني رئیس مجلس وزراء العراق الإتحادي الی الولایات المتحدة الأمریكیة منتصف شهر نیسان 2024 لتضع اللبنات الأساسیة لتدشین مرحلة جدیدة للعلاقات القائمة بین بغداد و واشنطن، حیث أوشكت غیوم قاتمة علی تلبید الرؤیة السیاسیة و تحریف المسار والدفع بالبلاد للوقوع في منزلق و متاهات المحاور الشائكة و المدمرة.ان اللقاءات والمباحثات التي اجراها السید السوداني في واشنطن مع الرئیس جو بایدن والمسؤولین الآخرین في الإدارة الأمریكیة رسمت بدایة جدیدة لتفعیل و تنفیذ اتفاقیة الإطار الإستراتیجي بین العراق و الولایات المتحدة، وفي حال تنفیذ هذه الخطوة بكل بنودها سیؤدي حتماً الی الدفع بمستوی العلاقات بین البلدین وفي مختلف القطاعات الی مراحل متطورة جداً، حیث تم التوصل الی الإتفاق والتوقیع علی ما یقارب 26 إتفاقیة و مذكرة تفاهم تشمل مجالات شتی، و كان السید سفین دزیی رئیس دائرة العلاقات الخارجیة لدی حكومة الإقلیم ممثلاً عن كوردستان ضمن الوفد العراقي الزائر لواشنطن، وقد التقی الوفد برئاسة السید السوداني بالرئیس بایدن كما أسلفنا، وكذلك اجتمع مع السید انتوني بلنكن وزیر الخارجیة الامریكي و مجموعة من كبار المسؤولین والمستشارین الامریكیین المختصین في الشؤون السیاسية والإقتصادیة والعسكریة والأمنیة والثقافیة والصحیة والتعلیم العالي.
جاءت زیارة السوداني الی واشنطن متزامنة مع قرب إنتخابات الرئاسة الامریكیة والتي من المزمع أجراءها بعد ستة أشهر من الآن، وهذا ما یفید الجانب الأمریكي أیضاً كجزء من الرسالة الإعلامیة لإدارة بایدن الی الناخبین الأمریكیین بخصوص ثمرة التضحیات التي قدمتها واشنطن في العراق لتقول للشارع الأمریكي ان دماء جنودها لم تذهب سدی بل نجم عنها الأمن والإستقرار و بناء الدیمقراطیة في العراق.مما لا شك فیه ان حكومة السید السوداني تحاول ان تتوازن وتقف بنفس المسافة بین واشنطن و طهران ولكن ایضاً تقف امام مطلبین إثنین (أمریكي و إیراني) احدهما أصعب من الآخر، حیث ان واشنطن ترید من بغداد القیام بمعالجة مشكلة (المیلیشیات) الشیعیة العراقیة المرتبطة بإیران والمعروفة (بالمیلیشیات الولائیة) و من خلال مسیراتها و هجماتها الصاروخیة تشكل خطراً حقیقیاً لتهدید المصالح العسكریة والدبلوماسیة للولایات المتحدة. وفي المقابل تطالب تلك (المیلیشیات) المرتبطة بطهران السید السوداني أیضاً بأن تلتزم حكومته بقرار مجلس النواب العراقي المصادَق علیه في (5/1/2020) بخصوص إخراج القوات الأمریكیة والتحالف الدولي من العراق، ذلك القرار الذي قامت الاحزاب الشیعیة بضغط من الشارع الشیعي الولائي الملتهب بعد مقتل (قاسم سلیماني و ابو مهدي المهندس) دون مشاركة الكتل النیابیة السنیة والكوردیة. بمعنی آخر ان حكومة السوداني واقعة بین شقي الرحی الأمریكي والإیراني، فمن جانب تطالبها واشنطن بأن تعالج (المیلیشیات المسلحة) لتنضوي تحت مظلة الجیش العراقي، و من جانب آخر (المیلیشیات) تلك تطلب من السید السوداني تنفیذ قرار مجلس النواب القاضي بإخراج القوات الامریكیة من العراق، بینما تری بغداد بأنه من الصعوبة بمكان تنفیذ أي من هذه المطالب المعروضة والمفروضة علیها، لأنها لا تستطیع مواجهة (المیلیشیات المسلحة)، وفي الوقت نفسه لا تستطیع الإستغناء عن الولایات المتحدة أیضاً، لأن العراق لا یمتلك تلك البنیة الصلبة سیاسیاً و إقتصادیاً و عسكریاً و أمنیاً كي یواجه بمفرده تهدیدات داعش الإرهابي و فصائل الحشد الشعبي (المنفلتة).
بعد إنسحاب أو إخراج القوات الامریكیة من العراق، لكن المؤشرات تبین لنا بأن إدارة الرئیس بایدن تراعي حكومة السید السوداني أكثر من إیران، والدلیل علی ذلك؛ طبیعة التعامل الأمریكي بخصوص ما جری من أحداث بعد السابع من اكتوبر وهجمات حركة حماس ضد اسرائیل، رأینا بأن الولایات المتحدة لم ترد علی جبهة المقاومة (والمیلیشیات الولائیة) السالفة بالذكر سوی مرات قلیلة حینما قامت الأخیرة بأكثر من (180) هجوماً بالمسیرات والصواریخ ضد القواعد الامریكیة في العراق و سوریا، لأن واشنطن كانت تنوي فقط ابعاد الساحة العراقیة عن الصراع المباشر مع طهران، وكان ذلك بمثابة رعایة و إحترام السیادة العراقیة و النأي بالعراق عن المشاكل والصراعات،علی عكس جمهوریة ایران الاسلامیة التي لم تُظهر حرصاً علی حكومة السید السوداني و الوضع العراقي عموماً كما یجب، كما لم نشهد حصول أي تقدم مع إدارة الرئیس بایدن الجدیدة بخصوص الإتفاق النووي و تخفیف العقوبات علی طهران، وهذا ما دفع ایران بأن تضغط علی واشنطن من خلال فصائلها و (میلیشیاتها المسلحة) في العراق والمنطقة من اجل رفع العقوبات الإقتصادیة والعودة الی اتفاقیة (5+1)، وبهذه الصورة نری بأن للملف النووي الایراني تأثیر مباشر علی الأمن والإستقرار في العراق.
وفي الختام اعتقد بأن كلا الزیارتین للسيد نيجيرفان البرزاني الی طهران و السيد محمد شیاع السوداني الی واشنطن كانتا هامتين جداً من حیث إبعاد الساحة العراقیة والكردستانية عن شبح و تبعات المحاور المتصارعة و مخاوف توسع موجات العنف والصراعات، كما ان الزیارتين اوقفتا احتمالات وصول لهیب الحرب الدائر بین حماس و اسرائیل في غزة لتحرق مساحات اوسع في المنطقة، والأهم من ذلك الحیلولة دون إنجرار العراق و اقليم كردستان مباشرة الی جبهة الصراع بین طهران و واشنطن من جهة، وطهران و تل ابیب من جهة اخری.
رئیس معهد البحوث الٲمریكیة-الكوردیة